بحـث
مواضيع مماثلة
المواضيع الأخيرة
هل تعرف الاموات زيارة الاحياء و سلامهم وهل يجوز التلقين و القراءة على القبور
صفحة 1 من اصل 1
هل تعرف الاموات زيارة الاحياء و سلامهم وهل يجوز التلقين و القراءة على القبور
من كتاب الروح لابن القيم الجوزية
المسألة الأولى وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟
قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة: أنه أمر بقتلى بدر، فألقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً». فقال له عمر: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام جيَّفوا، فقال: «والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جواباً».
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: «أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه».
وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: «السلام عليكم دام قوم مؤمنين». وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء:
، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به وردَّ عليه حتى يقوم».
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام.
حدثني رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين، فقلت أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قلت: فأين أنت؟ قال أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني، فنتلقى أخباركم. قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات، بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح. قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله، ويوم السبت إلى طلوع الشمس. قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
وعن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي الجبّان فنقف على القبور، فنسلم عليهم وندعو لهم، ثم ننصرف، فقلت ذات يوم: لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين! قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها.
و عن سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
عن أبي التياح قال: كان مطرف يغدو، فإذا كان يوم الجمعة أدلج قال: وسمعت أبا التياح يقول: بلغنا أنه كان ينور له في سوطه، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند مقابر القوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالساً على قبره، فقالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة. قلت: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير قلت: وما يقولون؟ قالوا: يقولون: سلام سلام.
و عن الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي جزعت عليه جزعاً شديداً، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله، ثم إني أتيته يوماً، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي، فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قاعد في قبره متوشحاً أكفانه عليه سحنة الموتى قال: فكأني بكيت لما رأيته، قال: يا بني ما أبطأ بك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فآنس بك وأسر بك، ويسر من حولي بدعائك قال: فكنت آتيه بعد ذلك كثيراً.
و عن عثمان بن سودة الطفاوي قال: وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها راهبة. قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء، فقالت: يا ذخري وذخيرتي، ومن عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري. قال: فماتت، فكنت آتيها في كل جمعة، فأدعو لها، وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في منامي، فقلت لها: يا أماه كيف أنت؟ قالت: أي بنيّ إن للموت لكربة شديدة، وإني بحمد الله لفي برزخ محمود نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبراق إلى يوم النشور فقلت لها: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قلت: وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك. يقال لي يا راهبة هذا ابنك قد أقبل، فأسر، ويسر بذلك من حولي من الأموات.
و عن بشر بن منصور، قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر، فقال: آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات. قال: فأمسيت ذات ليلة، وانصرفت إلى أهلي، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو قال: فبينا أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاؤوني، فقلت: ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها قال: قلت: فإني أعود لذلك. قال: فما تركتها بعد.
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحيّ من أقاربه وإخوانه.
قال عبد الله بن المبارك: حدثني ثور بن يزيد، عن إبراهيم، عن أبي أيوب قال: تعرض أعمال الأحياء على الموتى، فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا، وإن رأوا سوءاً قالوا: اللهم راجع به. وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني محمد أخي قال: دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو على فلسطين، فقال: عظني. قال: بم أعظك أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك. فبكى إبراهيم حتى اخضلت لحيته.
وهذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة، وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة. كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله.
ويكفي في هذا تسمية المسلِّم عليهم زائراً، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائراً، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصحّ أن يقال زاره. هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضاً، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية».
وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلِّم الرد، وإذا صلى الرجل قريباً منهم شاهدوه وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك.
قال يزيد بن هارون: أن ابن ساس خرج في جنازة في يوم وعليه ثياب خفاف، فانتهى إلى قبر، قال: فصليت ركعتين ثم أتكأت عليه، فوالله إن قلبي ليقظان إذ سمعت صوتاً من القبر: إليك عني لا تؤذني فإنكم قوم تعملون ولا تعلمون، ونحن قوم نعلم ولا نعمل، ولأن يكون لي مثل ركعتيك أحب إليَّ من كذا وكذا، فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر وبصلاته.
وقال ابن أبي الدنيا: عن أبو قلابة قال: أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلاً، فتطهرت وصليت ركعتين بليل، ثم وضعت رأسي على قبر، فنمت، ثم انتبهت، فإذا صاحب القبر يشتكيني يقول: قد آذيتني منذ الليلة، ثم قال: إنكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل، ثم قال: الركعتان اللتان ركعتهما خير من الدنيا وما فيها، ثم قال: جزى الله أهل الدنيا خيراً، أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نور أمثال الجبال.
و عن زيد بن وهب، قال: خرجت إلى الجبانة فجلست فيها، فإذا رجل قد جاء إلى قبر فسوَّاه، ثم تحول إليَّ، فجلس. قال: فقلت: لمن هذا القبر؟ قال: أخ لي فقلت: أخ لك؟ فقال: أخ لي في الله رأيته فيما يرى النائم، فقلت: فلان عشت! الحمد لله رب العالمين. قال: قد قلتها لأن أقدر على أن أقولها أحب إلي من الدنيا وما فيها. ثم قال: ألم تر حيث كانوا يدفنوني، فإن فلاناً قام فصلى ركعتين لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إليَّ من الدنيا وما فيها.
وهذه المرائي وإن لم تصح بمجردها لإثبات مثل ذلك فهي على كثرتها وإنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر» ـ يعني ليلة القدر ـ فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح، على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها.
وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه.
فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلاَّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي. قال: فقال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو متّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنّوا عليّ التراب سناً ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي، فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسرّ بهم.
وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن. قال عبد الحق: يروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة. وممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن، وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولاً حيث لم يبلغه فيه أثر، ثم رجع عن ذلك.
وقال الخلال في الجامع كتاب القراءة عند القبور: عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا متّ فضعني في اللحد، وقل: بسم الله، وعلى سنة رسول الله، وسنَّ عليَّ التراب سناً، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة، فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك.
قال عباس الدوري سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبر شيئاً؟ فقال: لا. وسألت يحيـى بن معين فحدثني بهذا الحديث.
قال الخلال: وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق، وحدثني علي بن موسى الحداد، وكان صدوقاً، قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة. فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة. قال: كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم، فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه أنه أوصى إذا دفن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال سمعت ابن عمر يوصي بذلك. فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل يقرأ.
وقال الحسن بن الصباح الزعفراني: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر فقال: لا بأس بها.
وذكره الخلال: عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرأون عنده القرآن. قال: وأخبرني أبو يحيـى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجروي يقول: مررت على قبر أخت لي، فقرأت عندها {تبارك} لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى الله أبا علي خيراً، فقد انتفعت بما قرأ.
أخبرني الحسن بن الهيثم: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نصر بن التمار يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثواباً فاجعله في أهل هذه المقابر، فلما كان في الجمعة التي تليها جاءت امرأة، فقالت: أنت فلان بن فلانة؟ قال: نعم. قالت: إن بنتاً لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها، فقلت: ما أجلسك ها هنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس، وجعل ثوابها لأهل المقابر، فأصابنا من روح ذلك، أو غفر لنا، أو نحو ذلك.
وفي النسائي وغيره من حديث معقل بن يسار المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقرأوا «يس» عند موتاكم». وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه:
أحدها: أنه نظير قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله.
الثاني: انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء الله فيحب الله لقاءها، فإن هذه السورة قلب القرآن، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر.
وقد ذكر أبو فرج بن الجوزي قال: كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول، وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك، وقال: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} وقضى.
الثالث: أن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً يقرأون «يس» عند المحتضر.
الرابع: أن الصحابة لو فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم». قراءتها عند القبر؛ لما أخلّوا به، وكان ذلك أمراً معتاداً مشهوراً بينهم.
الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره، فإنه لا يثاب على ذلك لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع، وهو عمل وقد انقطع من الميت.
وقد ترجم الحافط أبو محمد عبد الحق الإشبيلي على هذا فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهم،
واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يسلم عليّ ألا رد الله عليّ روحي حتى أردَّ عليه السلام». قال: وقال سليمان بن نعيم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم؟ قال: نعم وأرد عليهم، قال: وكان صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر السلام عليكم أهل الديار، الحديث. قال: وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من يدعو له.
قال أبو محمد: ويذكر عن الفضل بن الموفق قال: كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك، فشهدت يوماً جنازة في المقبرة التي دفن فيها، فتعجلت لحاجتي ولم آته، فلما كان من الليل رأيته في المنام، فقال لي: يا بني لم لا تأتيني؟ قلت له: يا أبت وإنك لتعلم بي إذا أتيتك؟ قال: إي والله يا بني لا أزال أطلع عليك حين تطلع من القنطرة حتى تصل إليّ وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة.
وصح عن عمرو بن دينار أنه قال: ما من ميت يموت إلا هو يعلم ما يكون في أهله بعده، وإنهم ليغسلونه ويكفنونه، وإنه لينظر إليهم.
وصح عن مجاهد أنه قال: إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده.
فصل :
ويدل على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً، وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه، واحتج عليه بالعمل.
ويروي فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمع ولا يجب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية، فإنه يستوي قاعداً، ثم ليقل يا فلان بن فلانة يقول: أرشدنا رحمك الله ولكنكم لا تسمعون، فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً. فإن منكراً ونكيراً يتأخر كل واحد منهما ويقول: انطلق بنا، ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته؟ ويكون الله ورسوله حجيجه دونهما فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمه حواء».
فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كافٍ في العمل به، وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولاً وأوفرها معارف تطيق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر، سنة الأول للآخر، ويقتدي فيه الآخر بالأول، فلولا أن المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا إن استحسنه واحد، فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه.
وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به «أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر جنازة رجل، فلما دفن قال: سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل». فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإن كان يسأل فإنه يسمع التلقين.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولّوا منصرفين».
وذكر عبد الحق عن بعض الصالحين قال: مات أخ لي، فرأيته في النوم فقلت: يا أخي ما كان هالك حين وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آتٍ بشهاب من نار فلولا أن داعياً دعا لي لهلكت.
وقال شبيب بن شيبة: أوصتني أمي عند موتها، فقالت: يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري، وقل: يا أم شبيب قولي لا إله إلا الله، فلما دفنتها قمت عند قبرها فقلت: يا أم شبيب قولي لا إله إلا الله، ثم انصرفت، فلما كان من الليل رأيتها في النوم فقالت: يا بني كدت أن أهلك لولا أن تداركني لا إله إلا الله، فقد حفظت وصيتي يا بني.
وذكر ابن أبي الدنيا، عن تماضر بنت سهل امرأة أيوب بن عيينة قالت: رأيت سفيان بن عيينة في النوم، فقال: جزى الله أخي أيوب عني خيراً، فإنه يزورني كثيراً وقد كان عندي اليوم، فقال أيوب: نعم حضرت الجبّان اليوم فذهبت إلى قبره.
وصح عن حماد بن سلمة، أن الصعب بن جثامة وعوف بن مالك كانا متآخيين، قال صعب لعوف أي أخي أيّنا مات قبل صاحبه فليتراء له. قال: أو يكون ذلك؟ قال: نعم. فمات صعب، فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه قد أتاه. قال: قلت أي أخي. قال: نعم. قلت: ما فُعل بكم؟ قال غُفر لنا بعد المصائب. قال: ورأيت لمعة سوداء في عنقه. قلت: أي أخي ما هذا؟ قال: عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي، فهن في قرني فأعطوه إياها، واعلم أي أخي أنه لم يحدث في أهلي حدث بعد موتي إلا قد لحق بي خبره حتى هرة لنا ماتت منذ أيام، واعلم أن ابنتي تموت إلى ستة أيام فاستوصوا بها معروفاً، فلما أصبحت قلت إن في هذا لمعلماً، فأتيت أهله، فقالوا: مرحباً بعوف أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم؟ لم تقربنا منذ مات صعب. قال: فاعتللت بما يعتل به الناس، فنظرت إلى القرن فأنزلته، فانتثلت ما فيه، فوجدت الصرة التي فيها الدنانير، فبعثت بها إلى اليهودي، فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحم الله صعباً كان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي له. قلت: لتخبرني. قال: نعم، أسلفته عشرة دنانير. فنبذتها إليه، قال: هي والله بأعيانها قال: قلت هذه واحدة.
قال: فقلت: هل حدث فيكم حدث بعد موت صعب؟ قالوا: نعم حدث فينا كذا، حدث فينا كذا. قال: قلت: اذكروا. قالوا: نعم هرة ماتت منذ أيام، فقلت: هاتان اثنتان.
قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب، فأتيت بها فمسَسْتُها، فإذا هي محمومة، فقلت: استوصوا بها معروفاً، فماتت في ستة أيام.
وهذا من فقه عوف رحمه الله، وكان من الصحابة حيث نفَّذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها من أن الدنانير عشرة وهي في القرن، ثم سأل اليهودي، فطابق قوله لما في الرؤيا، فجزم عوف بصحة الأمر، فأعطى اليهودي الدنانير، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس، وأعلمهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ويقول: كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعب وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام؟ ونظير هذا من الفقه الذي خصهم الله به دون الناس قصة ثابت بن قيس بن شماس، وقد ذكرها أبو عمر بن عبد البر وغيره. قال أبو عمر: عن ثابت بن قيس بن شماس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ثابت أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة؟» قال مالك: فقتل ثابت بن قيس يوم اليمامة شهيداً.
قال أبو عمر: قال: حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شماس، قالت: لما نزلت {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} دخل أبوها بيته، وأغلق عليه بابه، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليه يسأله ما خبره؟ قال: أنا رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي. قال: «لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير» قال: ثم أنزل الله {إن الله لا يحب كل مختال فخور} فأغلق عليه بابه، وطفق يبكي، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله إني أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي، فقال: «لست منهم بل تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة». قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا وانكشفوا قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد له حفرة، فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذٍ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه، فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم، فتضيعه، إني لما قتلت مر بي رجل من المسلمين، فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفأ على الدرع برمة وفوق البرمة رحل، فأتِ خالداً فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني أبا بكر الصديق، فقل له: إن عليّ من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق. وفلان. فأتى الرجل خالداً فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدّث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته، قال: ولا نعلم أحداً أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس رحمه الله. انتهى ما ذكره أبو عمر.
فقد اتفق خالد وأبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا وتنفيذ الوصية بها وانتزاع الدرع ممن هي في يده بها. وهذا محض الفقه.
وقد شرع الله سبحانه قبول قول المدعين لتركة ميتهم إذا مات في السفر، وأوصى إلى رجلين من غير المسلمين، فاطلع الورثة على خيانة الوصيين بأنهما يحلفان بالله ويستحقانه، وتكون أيمانهما أولى من أيمان الوصيين، وهذا أنزله الله سبحانه في آخر الأمر في سورة المائدة، وهي من آخر القرآن نزولاً، ولم ينسخها شيء وعمل بها الصحابة بعده.
وهذا دليل على أنه يقضى في الأموال باللوث وإذا كان الدم يباح باللوث في القسامة، فلأن يقضى باللوث وهو القرائن الظاهرة في الأموال أولى وأحرى.
وعلى هذا عمل ولاة العدل في استخراج السرقات من السراق حتى إن كثيراً ممن ينكر ذلك عليهم يستعين بهم إذا سرق ماله.
وقد حكى الله سبحانه عن الشاهد الذي شهد بين يوسف الصديق وامرأة العزيز أنه حكم بالقرينة على صدق يوسف وكذب المرأة، ولم ينكر الله سبحانه عليه ذلك، بل حكاه عنه تقريراً له.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نبي الله سليمان بن داود أنه حكم بين المرأتين اللتين تداعتا الولد للصغرى بالقرينة التي ظهرت له لما قال: إئتوني بالسكين أشق الولد بينكما، فقالت الكبرى: نعم رضيت بذلك للتسلي بفقد ابن صاحبتها، وقالت الأخرى: لا تفعل هو ابنها. فقضى به لها للشفقة والرحمة التي قامت بقلبها حتى سمحت به للأخرى، ويبقى حياً، وتنظر إليه.
وهذا من أحسن الأحكام وأعدلها، وشريعة الإسلام تقر مثل هذا وتشهد بصحته وهل الحكم بالقيافة وإلحاق النسب بها للاعتماد على قرائن الشبه مع اشتباهها وخفائها غالباً.
والمقصود أن القرائن التي قامت في رؤيا عوف بن مالك، وقصة ثابت بن قيس لا تقصر عن كثير من هذه القرائن، بل هي أقوى من مجرد وجود الآجر ومعاقد القمط وصلاحية المتاع للمدعي دون الآخر في مسألة الزوجين والصانعين، وهذا ظاهر لا خفاء فيه، وفطر الناس وعقولهم تشهد بصحته، وبالله التوفيق.
والمقصود جواب السائل، وأن الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له أولى وأحرى.
المسألة الأولى وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا؟
قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام». فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة: أنه أمر بقتلى بدر، فألقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً». فقال له عمر: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام جيَّفوا، فقال: «والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جواباً».
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: «أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه».
وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: «السلام عليكم دام قوم مؤمنين». وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء:
، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به وردَّ عليه حتى يقوم».
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام.
حدثني رجل من آل عاصم الجحدري قال: رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين، فقلت أليس قد متَّ؟ قال: بلى. قلت: فأين أنت؟ قال أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني، فنتلقى أخباركم. قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات، بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح. قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله، ويوم السبت إلى طلوع الشمس. قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
وعن القصاب قال: كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي الجبّان فنقف على القبور، فنسلم عليهم وندعو لهم، ثم ننصرف، فقلت ذات يوم: لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين! قال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها.
و عن سفيان الثوري قال: بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
عن أبي التياح قال: كان مطرف يغدو، فإذا كان يوم الجمعة أدلج قال: وسمعت أبا التياح يقول: بلغنا أنه كان ينور له في سوطه، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند مقابر القوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالساً على قبره، فقالوا: هذا مطرف يأتي الجمعة. قلت: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير قلت: وما يقولون؟ قالوا: يقولون: سلام سلام.
و عن الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي جزعت عليه جزعاً شديداً، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله، ثم إني أتيته يوماً، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي، فنمت، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج، وكأنه قاعد في قبره متوشحاً أكفانه عليه سحنة الموتى قال: فكأني بكيت لما رأيته، قال: يا بني ما أبطأ بك عني؟ قلت: وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة إلا علمتها، وقد كنت تأتيني فآنس بك وأسر بك، ويسر من حولي بدعائك قال: فكنت آتيه بعد ذلك كثيراً.
و عن عثمان بن سودة الطفاوي قال: وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها راهبة. قال: لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء، فقالت: يا ذخري وذخيرتي، ومن عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري. قال: فماتت، فكنت آتيها في كل جمعة، فأدعو لها، وأستغفر لها ولأهل القبور، فرأيتها ذات يوم في منامي، فقلت لها: يا أماه كيف أنت؟ قالت: أي بنيّ إن للموت لكربة شديدة، وإني بحمد الله لفي برزخ محمود نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والإستبراق إلى يوم النشور فقلت لها: ألك حاجة؟ قالت: نعم. قلت: وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك. يقال لي يا راهبة هذا ابنك قد أقبل، فأسر، ويسر بذلك من حولي من الأموات.
و عن بشر بن منصور، قال: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا أمسى وقف على باب المقابر، فقال: آنس الله وحشتكم ورحم غربتكم، وتجاوز عن مسيئكم، وقبل حسناتكم، لا يزيد على هؤلاء الكلمات. قال: فأمسيت ذات ليلة، وانصرفت إلى أهلي، ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو قال: فبينا أنا نائم إذا بخلق كثير قد جاؤوني، فقلت: ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر قلت: ما حاجتكم؟ قالوا: إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك فقلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها قال: قلت: فإني أعود لذلك. قال: فما تركتها بعد.
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحيّ من أقاربه وإخوانه.
قال عبد الله بن المبارك: حدثني ثور بن يزيد، عن إبراهيم، عن أبي أيوب قال: تعرض أعمال الأحياء على الموتى، فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا، وإن رأوا سوءاً قالوا: اللهم راجع به. وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني محمد أخي قال: دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو على فلسطين، فقال: عظني. قال: بم أعظك أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم الموتى، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك. فبكى إبراهيم حتى اخضلت لحيته.
وهذا باب في آثار كثيرة عن الصحابة، وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة. كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله.
ويكفي في هذا تسمية المسلِّم عليهم زائراً، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائراً، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصحّ أن يقال زاره. هذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم، وكذلك السلام عليهم أيضاً، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية».
وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلِّم الرد، وإذا صلى الرجل قريباً منهم شاهدوه وعلموا صلاته وغبطوه على ذلك.
قال يزيد بن هارون: أن ابن ساس خرج في جنازة في يوم وعليه ثياب خفاف، فانتهى إلى قبر، قال: فصليت ركعتين ثم أتكأت عليه، فوالله إن قلبي ليقظان إذ سمعت صوتاً من القبر: إليك عني لا تؤذني فإنكم قوم تعملون ولا تعلمون، ونحن قوم نعلم ولا نعمل، ولأن يكون لي مثل ركعتيك أحب إليَّ من كذا وكذا، فهذا قد علم باتكاء الرجل على القبر وبصلاته.
وقال ابن أبي الدنيا: عن أبو قلابة قال: أقبلت من الشام إلى البصرة، فنزلت منزلاً، فتطهرت وصليت ركعتين بليل، ثم وضعت رأسي على قبر، فنمت، ثم انتبهت، فإذا صاحب القبر يشتكيني يقول: قد آذيتني منذ الليلة، ثم قال: إنكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نقدر على العمل، ثم قال: الركعتان اللتان ركعتهما خير من الدنيا وما فيها، ثم قال: جزى الله أهل الدنيا خيراً، أقرئهم منا السلام، فإنه يدخل علينا من دعائهم نور أمثال الجبال.
و عن زيد بن وهب، قال: خرجت إلى الجبانة فجلست فيها، فإذا رجل قد جاء إلى قبر فسوَّاه، ثم تحول إليَّ، فجلس. قال: فقلت: لمن هذا القبر؟ قال: أخ لي فقلت: أخ لك؟ فقال: أخ لي في الله رأيته فيما يرى النائم، فقلت: فلان عشت! الحمد لله رب العالمين. قال: قد قلتها لأن أقدر على أن أقولها أحب إلي من الدنيا وما فيها. ثم قال: ألم تر حيث كانوا يدفنوني، فإن فلاناً قام فصلى ركعتين لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إليَّ من الدنيا وما فيها.
وهذه المرائي وإن لم تصح بمجردها لإثبات مثل ذلك فهي على كثرتها وإنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر» ـ يعني ليلة القدر ـ فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء كان كتواطؤ روايتهم له وكتواطؤ رأيهم على استحسانه واستقباحه، وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح، على أنا لم نثبت هذا بمجرد الرؤيا بل بما ذكرناه من الحجج وغيرها.
وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه.
فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياق الموت، فبكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: ما يبكيك يا أبتاه؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشدّ بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلاَّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسط يدك فلأبايعك، فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي. قال: فقال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو متّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا متّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنّوا عليّ التراب سناً ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي، فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسرّ بهم.
وقد ذكر عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن. قال عبد الحق: يروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة. وممن رأى ذلك المعلى بن عبد الرحمن، وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولاً حيث لم يبلغه فيه أثر، ثم رجع عن ذلك.
وقال الخلال في الجامع كتاب القراءة عند القبور: عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا متّ فضعني في اللحد، وقل: بسم الله، وعلى سنة رسول الله، وسنَّ عليَّ التراب سناً، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة، فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول ذلك.
قال عباس الدوري سألت أحمد بن حنبل قلت: تحفظ في القراءة على القبر شيئاً؟ فقال: لا. وسألت يحيـى بن معين فحدثني بهذا الحديث.
قال الخلال: وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق، وحدثني علي بن موسى الحداد، وكان صدوقاً، قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة. فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة. قال: كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم، فأخبرني مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه أنه أوصى إذا دفن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال سمعت ابن عمر يوصي بذلك. فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل يقرأ.
وقال الحسن بن الصباح الزعفراني: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر فقال: لا بأس بها.
وذكره الخلال: عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرأون عنده القرآن. قال: وأخبرني أبو يحيـى الناقد قال: سمعت الحسن بن الجروي يقول: مررت على قبر أخت لي، فقرأت عندها {تبارك} لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى الله أبا علي خيراً، فقد انتفعت بما قرأ.
أخبرني الحسن بن الهيثم: سمعت أبا بكر بن الأطروش ابن بنت أبي نصر بن التمار يقول: كان رجل يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة يس، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة يس، ثم قال: اللهم إن كنت قسمت لهذه السورة ثواباً فاجعله في أهل هذه المقابر، فلما كان في الجمعة التي تليها جاءت امرأة، فقالت: أنت فلان بن فلانة؟ قال: نعم. قالت: إن بنتاً لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها، فقلت: ما أجلسك ها هنا؟ فقالت: إن فلان بن فلانة جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة يس، وجعل ثوابها لأهل المقابر، فأصابنا من روح ذلك، أو غفر لنا، أو نحو ذلك.
وفي النسائي وغيره من حديث معقل بن يسار المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقرأوا «يس» عند موتاكم». وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر، والأول أظهر لوجوه:
أحدها: أنه نظير قوله: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله.
الثاني: انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء الله فيحب الله لقاءها، فإن هذه السورة قلب القرآن، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر.
وقد ذكر أبو فرج بن الجوزي قال: كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول، وهو في السياق، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك، وقال: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} وقضى.
الثالث: أن هذا عمل الناس وعادتهم قديماً وحديثاً يقرأون «يس» عند المحتضر.
الرابع: أن الصحابة لو فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا «يس» عند موتاكم». قراءتها عند القبر؛ لما أخلّوا به، وكان ذلك أمراً معتاداً مشهوراً بينهم.
الخامس: أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود، وأما قراءتها عند قبره، فإنه لا يثاب على ذلك لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع، وهو عمل وقد انقطع من الميت.
وقد ترجم الحافط أبو محمد عبد الحق الإشبيلي على هذا فقال: ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ويعرفون أقوالهم وأعمالهم،
واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يسلم عليّ ألا رد الله عليّ روحي حتى أردَّ عليه السلام». قال: وقال سليمان بن نعيم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك ويسلمون عليك أتفقه منهم؟ قال: نعم وأرد عليهم، قال: وكان صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن يقولوا إذا دخلوا المقابر السلام عليكم أهل الديار، الحديث. قال: وهذا يدل على أن الميت يعرف سلام من يسلم عليه ودعاء من يدعو له.
قال أبو محمد: ويذكر عن الفضل بن الموفق قال: كنت آتي قبر أبي المرة بعد المرة فأكثر من ذلك، فشهدت يوماً جنازة في المقبرة التي دفن فيها، فتعجلت لحاجتي ولم آته، فلما كان من الليل رأيته في المنام، فقال لي: يا بني لم لا تأتيني؟ قلت له: يا أبت وإنك لتعلم بي إذا أتيتك؟ قال: إي والله يا بني لا أزال أطلع عليك حين تطلع من القنطرة حتى تصل إليّ وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة.
وصح عن عمرو بن دينار أنه قال: ما من ميت يموت إلا هو يعلم ما يكون في أهله بعده، وإنهم ليغسلونه ويكفنونه، وإنه لينظر إليهم.
وصح عن مجاهد أنه قال: إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده.
فصل :
ويدل على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً، وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله فاستحسنه، واحتج عليه بالعمل.
ويروي فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمع ولا يجب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية، فإنه يستوي قاعداً، ثم ليقل يا فلان بن فلانة يقول: أرشدنا رحمك الله ولكنكم لا تسمعون، فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً. فإن منكراً ونكيراً يتأخر كل واحد منهما ويقول: انطلق بنا، ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته؟ ويكون الله ورسوله حجيجه دونهما فقال رجل: يا رسول الله فإن لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمه حواء».
فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كافٍ في العمل به، وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولاً وأوفرها معارف تطيق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر، سنة الأول للآخر، ويقتدي فيه الآخر بالأول، فلولا أن المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم، وهذا إن استحسنه واحد، فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه.
وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به «أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر جنازة رجل، فلما دفن قال: سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل». فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإن كان يسأل فإنه يسمع التلقين.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولّوا منصرفين».
وذكر عبد الحق عن بعض الصالحين قال: مات أخ لي، فرأيته في النوم فقلت: يا أخي ما كان هالك حين وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آتٍ بشهاب من نار فلولا أن داعياً دعا لي لهلكت.
وقال شبيب بن شيبة: أوصتني أمي عند موتها، فقالت: يا بني إذا دفنتني فقم عند قبري، وقل: يا أم شبيب قولي لا إله إلا الله، فلما دفنتها قمت عند قبرها فقلت: يا أم شبيب قولي لا إله إلا الله، ثم انصرفت، فلما كان من الليل رأيتها في النوم فقالت: يا بني كدت أن أهلك لولا أن تداركني لا إله إلا الله، فقد حفظت وصيتي يا بني.
وذكر ابن أبي الدنيا، عن تماضر بنت سهل امرأة أيوب بن عيينة قالت: رأيت سفيان بن عيينة في النوم، فقال: جزى الله أخي أيوب عني خيراً، فإنه يزورني كثيراً وقد كان عندي اليوم، فقال أيوب: نعم حضرت الجبّان اليوم فذهبت إلى قبره.
وصح عن حماد بن سلمة، أن الصعب بن جثامة وعوف بن مالك كانا متآخيين، قال صعب لعوف أي أخي أيّنا مات قبل صاحبه فليتراء له. قال: أو يكون ذلك؟ قال: نعم. فمات صعب، فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه قد أتاه. قال: قلت أي أخي. قال: نعم. قلت: ما فُعل بكم؟ قال غُفر لنا بعد المصائب. قال: ورأيت لمعة سوداء في عنقه. قلت: أي أخي ما هذا؟ قال: عشرة دنانير استسلفتها من فلان اليهودي، فهن في قرني فأعطوه إياها، واعلم أي أخي أنه لم يحدث في أهلي حدث بعد موتي إلا قد لحق بي خبره حتى هرة لنا ماتت منذ أيام، واعلم أن ابنتي تموت إلى ستة أيام فاستوصوا بها معروفاً، فلما أصبحت قلت إن في هذا لمعلماً، فأتيت أهله، فقالوا: مرحباً بعوف أهكذا تصنعون بتركة إخوانكم؟ لم تقربنا منذ مات صعب. قال: فاعتللت بما يعتل به الناس، فنظرت إلى القرن فأنزلته، فانتثلت ما فيه، فوجدت الصرة التي فيها الدنانير، فبعثت بها إلى اليهودي، فقلت: هل كان لك على صعب شيء؟ قال: رحم الله صعباً كان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي له. قلت: لتخبرني. قال: نعم، أسلفته عشرة دنانير. فنبذتها إليه، قال: هي والله بأعيانها قال: قلت هذه واحدة.
قال: فقلت: هل حدث فيكم حدث بعد موت صعب؟ قالوا: نعم حدث فينا كذا، حدث فينا كذا. قال: قلت: اذكروا. قالوا: نعم هرة ماتت منذ أيام، فقلت: هاتان اثنتان.
قلت: أين ابنة أخي؟ قالوا: تلعب، فأتيت بها فمسَسْتُها، فإذا هي محمومة، فقلت: استوصوا بها معروفاً، فماتت في ستة أيام.
وهذا من فقه عوف رحمه الله، وكان من الصحابة حيث نفَّذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها من أن الدنانير عشرة وهي في القرن، ثم سأل اليهودي، فطابق قوله لما في الرؤيا، فجزم عوف بصحة الأمر، فأعطى اليهودي الدنانير، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس، وأعلمهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ويقول: كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعب وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام؟ ونظير هذا من الفقه الذي خصهم الله به دون الناس قصة ثابت بن قيس بن شماس، وقد ذكرها أبو عمر بن عبد البر وغيره. قال أبو عمر: عن ثابت بن قيس بن شماس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ثابت أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة؟» قال مالك: فقتل ثابت بن قيس يوم اليمامة شهيداً.
قال أبو عمر: قال: حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شماس، قالت: لما نزلت {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} دخل أبوها بيته، وأغلق عليه بابه، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليه يسأله ما خبره؟ قال: أنا رجل شديد الصوت أخاف أن يكون قد حبط عملي. قال: «لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير» قال: ثم أنزل الله {إن الله لا يحب كل مختال فخور} فأغلق عليه بابه، وطفق يبكي، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فأخبره، فقال: يا رسول الله إني أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي، فقال: «لست منهم بل تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة». قالت: فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا وانكشفوا قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد له حفرة، فثبتا وقاتلا حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذٍ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه، فقال له: أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم، فتضيعه، إني لما قتلت مر بي رجل من المسلمين، فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفأ على الدرع برمة وفوق البرمة رحل، فأتِ خالداً فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني أبا بكر الصديق، فقل له: إن عليّ من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق. وفلان. فأتى الرجل خالداً فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدّث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته، قال: ولا نعلم أحداً أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس رحمه الله. انتهى ما ذكره أبو عمر.
فقد اتفق خالد وأبو بكر الصديق والصحابة معه على العمل بهذه الرؤيا وتنفيذ الوصية بها وانتزاع الدرع ممن هي في يده بها. وهذا محض الفقه.
وقد شرع الله سبحانه قبول قول المدعين لتركة ميتهم إذا مات في السفر، وأوصى إلى رجلين من غير المسلمين، فاطلع الورثة على خيانة الوصيين بأنهما يحلفان بالله ويستحقانه، وتكون أيمانهما أولى من أيمان الوصيين، وهذا أنزله الله سبحانه في آخر الأمر في سورة المائدة، وهي من آخر القرآن نزولاً، ولم ينسخها شيء وعمل بها الصحابة بعده.
وهذا دليل على أنه يقضى في الأموال باللوث وإذا كان الدم يباح باللوث في القسامة، فلأن يقضى باللوث وهو القرائن الظاهرة في الأموال أولى وأحرى.
وعلى هذا عمل ولاة العدل في استخراج السرقات من السراق حتى إن كثيراً ممن ينكر ذلك عليهم يستعين بهم إذا سرق ماله.
وقد حكى الله سبحانه عن الشاهد الذي شهد بين يوسف الصديق وامرأة العزيز أنه حكم بالقرينة على صدق يوسف وكذب المرأة، ولم ينكر الله سبحانه عليه ذلك، بل حكاه عنه تقريراً له.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نبي الله سليمان بن داود أنه حكم بين المرأتين اللتين تداعتا الولد للصغرى بالقرينة التي ظهرت له لما قال: إئتوني بالسكين أشق الولد بينكما، فقالت الكبرى: نعم رضيت بذلك للتسلي بفقد ابن صاحبتها، وقالت الأخرى: لا تفعل هو ابنها. فقضى به لها للشفقة والرحمة التي قامت بقلبها حتى سمحت به للأخرى، ويبقى حياً، وتنظر إليه.
وهذا من أحسن الأحكام وأعدلها، وشريعة الإسلام تقر مثل هذا وتشهد بصحته وهل الحكم بالقيافة وإلحاق النسب بها للاعتماد على قرائن الشبه مع اشتباهها وخفائها غالباً.
والمقصود أن القرائن التي قامت في رؤيا عوف بن مالك، وقصة ثابت بن قيس لا تقصر عن كثير من هذه القرائن، بل هي أقوى من مجرد وجود الآجر ومعاقد القمط وصلاحية المتاع للمدعي دون الآخر في مسألة الزوجين والصانعين، وهذا ظاهر لا خفاء فيه، وفطر الناس وعقولهم تشهد بصحته، وبالله التوفيق.
والمقصود جواب السائل، وأن الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعائه له أولى وأحرى.
ابا محمد اسحاق حمدان- عدد المساهمات : 918
رايك في الموضوع يهمنا : 0
تاريخ التسجيل : 30/01/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اليوم في 12:57 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» الاخ من الرضاع
أمس في 1:55 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» كيف وصل القرآن الكريم إلينا ؟
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 3:07 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» شرح كتاب منهاج الطالبين للإمام النووي رحمه الله تعالى ، كتاب التيمم
الأحد نوفمبر 17, 2024 9:55 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» لماذا يطلق على إيران بالصفوية
الإثنين أكتوبر 28, 2024 1:56 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» شرح كتاب منهاج الطالبين للإمام النووي رحمه الله تعالى ، كتاب التيمم2
الخميس أكتوبر 24, 2024 3:07 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» العصا تنقلب الى مصباح منير
الخميس أكتوبر 24, 2024 12:51 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» أبو نواس ، يغفر الله تعالى الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر
الأربعاء أكتوبر 23, 2024 1:45 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» قصة بشار بن برد مع الحمار
الثلاثاء أكتوبر 22, 2024 1:56 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» الوصية حرام بهذه الطريقة
السبت أكتوبر 19, 2024 10:03 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» القرآن يتحدى الذكاء الاصطناعي
الأربعاء أكتوبر 16, 2024 2:30 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» شرح كتاب منهاج الطالبين للإمام النووي رحمه الله تعالى ، كتاب التيمم
الإثنين أكتوبر 14, 2024 1:10 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» حتى الكافر انتفع بميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الإثنين سبتمبر 09, 2024 12:57 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» تفسير قول الله تعالى ( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ )
الثلاثاء أغسطس 13, 2024 12:24 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» الايام الماضية والسابقة أين ذهبت
الإثنين يوليو 29, 2024 10:28 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان