بحـث
مواضيع مماثلة
المواضيع الأخيرة
نقل الاعضاء و الموت الدماغي
صفحة 1 من اصل 1
نقل الاعضاء و الموت الدماغي
الموت الدماغي ... بيان حقائق و كشف شبهات
بقلم : د . أبو بكر خليل
بسم الله الرحمن الرحيم
يأتي القول بالموت الدماغي – و هو تنزيل الداء المسمى بموت المخ منزلة الموت المعتبر ، مع وجود العديد من علامات الحياة المعهودة – كحلقة من حلقات تغيير المفاهيم ، التي يجري الترويج لها باستمرار و إصرار يصل إلى حدّ الضغط و الإلحاح ؛ لاستباحة أجساد هؤلاء المرضى الأحياء ، و استلاب أعضائهم ؛ بدعوى نقلها و زرعها في أجسام مرضى غيرهم .
و يحسُن بنا قبل التعرض لبعض القرارات التي ألبَسَت ثوبَ المشروعية للإماتة بداء موت المخ ، أن نورِد واحداً من القرارات القاضية بحياة هؤلاء المرضَى ، و هو قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي – في دورته العاشرة ، سنة 1987 – ( بشأن موضوع تقرير حصول الوفاة و رفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان ) ، و نَصّه : " المريض الذي رُكبت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها ، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا ، و قررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء ، أن التعطل لا رجعة فيه ، و إن كان القلب و التنفس لا يزالان يعملان آليا ، بفعل الأجهزة المركبة . لكن لا يُحكَم بموته شرعاً ، إلاّ إذا توقف التنفس و القلب ، توقفا تاما بعد رفع هذه الأجهزة .
و صلى الله على سيدنا محمد ، و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا ، و الحمد لله رب العالمين " . أهـ[ ]
فهذا القرار يَنُصّ تصريحاً على أن المريض الذي يُطلق عليه " الميِّت دماغيا " - بموت كل الدماغ ، و هو من تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا لا رجعة فيه – لا يُحكَم بموته شرعاً .
و يلزم منه الحكم بحياته شرعا ، إلى أن يتوقف التنفس و القلب توقفا تاما ، بعد رفع أجهزة الإنعاش .
و هذا القرار الفقهي المجمَعي ينفي اعتبار الشرع للموت الدماغي ؛ بمعنى أن الشرع لا يعتبر الموت الدماغي موتاً حقيقيا ، فلا يترتب عليه أي حكم من أحكام الموت المقررة في الشرع .
و لا تُعَدّ القرارات الأخرى المخالفة لهذا القرار مِن قبيل الاختلاف الفقهي المعتبر ؛ لعدم استنادها إلى دليلٍ شرعي صحيح ، و قيامها على دعاوى غير صحيحة ، طباً و حِسّاً . و سيأتي بيانه .
و قد زَعم الذين ابتدعوا أو انخدعوا بمصطلح ( مَوت المُخّ أو موت الدماغ ) – الذي هو في حقيقته تَوقُف أو تعطُلّ في وظائفه[ ]– أنّ الأشخاص المُصابين بذلك الداء لن يبرَأوا منه أبدا ، و أنّ مَآلَهم إلى المَوْت القريب حَتماً ، و لِذا ينبغي – بِزَعمهم - التعجيل باقتطاع و انتزاع قلوبهم و أعضائهم السليمة الحيَّة - قبل أن تَتلف و تَبْلَى – لنقلها و زرعها في أجساد آخرين مَرضَى !
و في ذلك يقول قائلهم : ( نحن نعلم تماماً أن الإنسان بلا وظيفة للمخ ليس مفيدا أو مضراً لعدم وجود المركز المسيطر على الأجهزة ، فإذا فشلتْ وظيفةُ المخ بالقطع واليقين بعد ساعة أو بعد خمس دقائق أو بعد يوم أو بعد أسبوع فالنهاية حتمية ومعروفة ، وإذا أراد البعض أن يستفيد من هذا الوضع بأن يقول : لماذا لا نستفيد بعضو؟ .... إن هذا هو العطاء الذي يمكن أن تنقذ به الآخرين ). أهـ[ ]
و يقول آخر في بحثه المقدّم إلى ندوة " التعريف الطبي للموت " ، في التغيّرات التي تتبع موت جذع المخ : ( ولتوضيح هذا المعنى لدى القارىء نشبِّه جذع المخ بجذع الشجرة فإذا تلف جذع الشجرة تماما فإننا لا نتوقع أن تستمر الساق والأفرع والثمار في الحياة طويلا بعد ذلك ، ولكن أعضاء الجسم الأخرى يمكنها القيام بوظائفها لفترة من الزمن ويمكن نقلها للآخرين ، إلا أن فرص نجاح جراحة زراعة العضو تكون في أحسن حالاتها إذا نقل العضو فور موت جذع المخ مباشرة وقبل أن تدب فيه أية درجة من درجات التحلل بقدر الإمكان ، وذلك بالقيام بالتشخيص المبكر لموت جذع المخ ).[ ]
و ذكَر بيان ندوة " الحياة الإنسانية بدايتها و نهايتها " - التي عُقدت بالكويت سنة 1985 – نقلاً عن الأطباء المشاركين فيها قولهم : ( إن كان جذع المخ قد مات فلا أمل في إنقاذه وإنما يكون المريض قد انتهت حياته ، ولو ظلت قي أجهزة أخرى من الجسم بقية من حركة أو وظيفة هي بلا شك بعد موت جذع المخ صائرة إلى توقف وخمود تام ) . أهـ [ ]
هذا و قد بلغت مُدة بقاء عمل القلب في بعض هؤلاء المرضى ثمانية و ستين يوماً بعد تشخيص الإصابة بموت الدماغ [ ] ؛ كما قال أحد المؤيدين لاعتباره موتاً للإنسان المُصاب به . و لا يقول عاقل إن عمل القلب تلك المدّة إنما هو بقية حركة أو وظيفة ، حتى لو كان ذلك بمساعدة أجهزة الإنعاش ؛ لأنها لا يمكنها فعل مثل ذلك في أجساد الأموات موتاً حقيقيا . هذا فضلاً عن أنّ أجهزة الإنعاش لا صلة لها ببقية أجهزة الجسم العاملة.
و هذا الجَزْمُ الذي ادّعوه – و المذكور في أول هذا الفصل - زَعْمٌ باطل ؛ لأنٍَّ عِِلْم ذلك و تقديره عند الله وحدَه ، لا عند أحدٍ سِواه ، و لا يُجادل في هذه الحقيقة الأكيدة إلاّ جاحدٌ أو مُعانِد ؛ قال الله تعالى :{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا }.[آل عمران : 145].
و معنى " مؤجلا " إلى أجل. ومعنى " بإذن الله " بقضاء الله وقدره .
وأجل الموت : هو الوقت الذي في معلومه سبحانه ، أنّ روح الحيّ تفارق جسده ؛ قاله القرطبي [ ] . و عليه فالله وحده هو من يعلم و من يُحَدِّد لحظة الموت .
و تلك الحُجَّة التي احتَجّوا بها داحضة ؛ لأن تَوَقُّع دُنُوّ ٍالمَوت ليس سبباً - في الشرع - للتعجيل بإيقاعه بوسيلة من الوسائل ، أو لِغَرضٍ من الأغراض ، مثل استباحة الجسد و استلاب الأعضاء ، و إلاّ لَجَازَ فِعْل ذلك بجميع المُحْتضِرين مِن غَير مَرضَى موت الدماغ ، و هذا باطلٌ بِلا رَيْب ؛ لأنّ الله تعالى حرّم إعجال مَوت مَن قربتْ نفْسه مِن الزهوق ، و أنّ فاعل ذلك قاتلُ نفْسٍ ؛ ٍقال الإمام ابن حزم : لا يختلف اثنان من الأُمة كلها في أن من قَرُبَتْ نفْسُه من الزَّهوق بعلَّة أو بجراحة أو بجناية بعمدٍ أو خطأ فمات له ميتٌ فإنه يرثه ، وإن كان عبداً فأُعتق فإنه يرثه ورثته من الاحرار ، وأنه إن قدر على الكلام فأسلم وكان كافراً وهو يميز بعد فإنه مسلمٌ يرث أهله من المسلمين ، وأنه إن عاين وشخَص ولو يكن بينه وبين الموت إلا نفَسٌ واحد فمات من أوصى له بوصية فإنه قد استحق الوصية ويرثها عنه ورثته ؛ فصح أنه حيٌّ بعدُ بلاشك ؛ إذ لا يختلف اثنان من أهل الشريعة وغيرهم في أنه ليس إلا حيٌّ أو ميت ولا سبيل إلى قسم ثالث ، فإذ هو كذلك وكنا على يقينٍ من أن الله تعالى قد حرّم إعجال موته وغَمّه ومنعه النفَس ؛ فبيقينٍ وضرورة ندري أن قاتله قاتل نفْسٍ بلا شك ، فمن قتله في تلك الحال عمداً فهو قاتل نفْس عمدا ومن قتله خطأ فهو قاتل خطأ ، وعلى العامد القود أو الدِّية أو المفاداة ، وعلى المخطئ الكفارة والدية على عاقلته ، وكذلك في أعضائه القود في العمد . أهـ [ ]
و هذا الإعجال بالموت هو الحاصل في إماتة المرضَى بموت الدماغ ؛ بمنعهم النفَس بطريق نزع أجهزة الإنعاش – المساعِدة على التنفس – عنهم ، في حال رفض أهلهم التبرع بأعضائهم ، أو بإماتتهم قتلاً بانتزاع أعضاء أجسامهم الحيوية – الضرورية للحياة – في حال القبول بذلك التبرع . و قتْل النفْس العمْد متحققٌ في كِلا الحاليْن .
و لا يَصحّ التعلل بغرَض اقتطاع الأعضاء لعلاج الغير - في ذلك الإعجال بالموت – لأن ( لِحياة الإنسان حُرْمتها ، و لا يجوز إهدارها إلاّ في المواطن التي حددتها الشريعة الإسلامية ، و هذه خارج نطاق المهنة الطبية تماماً ) ؛ كما جاء في الباب السابع من " الدستور الإسلامي للمِهن الطبية " ، الذي أقَرّته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية . [ ]
الاستدلال بالسؤال المغلوط
و في سبيل الاحتجاج لدعوَى الموت الدماغي ، وضعوا سؤالاً مغلوطاً يقول : ( هل هناك حالة واحدة مات فيها جذع المخ ، ثم عادت لها الحياة ؟ ) ، و يجيبون بـ( لا ) ، و عليه يقرّرون صحة دعوى الموت الدماغي [ ] !
و في ذلك يقول بيان المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية حول " التعريف الطبي للموت " : ( وقد فُصِّل الأمر خلال الندوة تفصيلا كاملا، ودار نقاش طويل واف للموضوع على مدى ثلاثة أيام ، وتبين للمجتمعين أنه ما من حالة تأكد فيها تشخيص موت الدماغ وجذعه وعادت إليها الحياة ، وما من حالة عادت إلى الحياة بعدما توفرت فيها شروط تشخيص موت الدماغ وجذعه ، وأن كل الحالات التي استشهد بها مَنْ شكك في هذا المفهوم كانت إما حالات لم يتم الالتزام فيها بمعايير التشخيص التزاما صارما، وإما حالات نجمت عن خطأ في التشخيص أو الاستنتاج أو الاستدلال ). أهـ[ ]
و وجه الغلط في سؤالهم : ( هل هناك حالة واحدة مات فيها جذع المخ ، ثم عادت لها الحياة ؟ ) ، أنّ هؤلاء المرضى لم يفارقوا الحياة بعدُ و لم تفارقهم ؛ فلا معنى للسؤال عن عودتها مع إنكار وجودها أصلاً في حالهم هذا ؛ فهمّ لا يعترفون بحياة هؤلاء المرضى ، و ينكرون علاماتها الموجودة في أبدانهم .
و على تقدير الاعتراف بنوعٍ من الحياة لهؤلاء المرضى ، فلا حجة لهم في سؤالهم هذا ؛ إذ يمكن قول مثله في الاحتجاج للتعجيل بإماتة جميع من يعاني الاحتضار ، و هذا باطلٌ بلا ريب .
و ليس ذلك السؤال هو محلّ الجدال فيمن يُسمّونهم بموتى المخ ، و لكن الأصل في السؤال هو : هل هؤلاء المرضَى مَوتَى حقيقةً في هذا الوقت و في تلك الحال ، مع وجود كثير من مظاهر الحياة فيهم ، مثل أعضاء الجسم و أجهزته الحيّة القائمة بوظائفها ؟!
هذا هو السؤال ، بصرف النظر عن وفاتهم بعد ذلك أَم بقائهم أحياء ، شأن أيّ إنسان به مرَض من الأمراض .
و قد تَجاسَر بعضهم و ادّعَى أن ما يُسَمّى بـ( موت المخّ أو موت الدماغ ) هو مَوْتٌٌ حقيقيّ يقينيّ للإنسان ؛ بزعمهم ، حتى قال قائلهم في بحثه المقدّم لندوة " التعريف الطبي للموت " : ( إنني أعتقد أن من ينكر الآن وجود تشخيص «موت المخ» كحالة إكلينيكية ومعملية محددة المعالم ، وأن هذا التشخيص يعني نهاية رحلة الإنسان في الحياة الدنيا، لا يختلف كثيراً عمن ينكر أن الأرض كروية أو أنها تدور حول الشمس ) . [ ]
و في حوارٍ مع صحيفة الأهرام - بتاريخ 14 / 5 / 2007 – سُئِل د . حمدي السيد : هل مرضي مايسمي بموتي جذع المخ أحياء أم أموات ؟
فأجاب : هم موتي بالفعل ، وليسوا مرضَى غيبوبة عميقة ، فمرضى الغيبوبة العميقة هم أحياء , أما من أصيبوا بنزيف كامل في المخ أو أصيبوا بموت جذع المخ في الحوادث فهم أموات .أهـ [ ]
و لا عِبْرة – بزعمهم أيضا - بوجود كثير مِن مظاهر و شواهد الحياة المُتعارَف عليها ، في أجساد هؤلاء المرضى ، مِثل القلوب الحَيّة النابضة ، و أجهزة الجسم الرئيسية العاملة بكفاءة ؛ بِدَعوى عدم دلالتها على حياة أصحابها ، ما دام الدِّماغ أو المُخّ قد تَوقّف عن العمل و تعَطّلٍ .
و لا ننكِِر أهمية المُخّ في حياة الإنسان ؛ فهي مما لا يحتاج إلى بيان ، و إنما نُنكِر دلالة دائه هذا على موت المريض به ، مع حياة و عمل قلبه و أعضائه و أجهزة جسمه !
نَقْض مسالك في رفع التناقض
و قد كان مِن مقتضَى القول بالموت الدماغي وجود ما يُسَمى بـ ( الجثة ذات القلب النابض ) ، و لرفع ذلك التناقض القاطع الظاهر عمدوا إلى القول بعدم الاعتداد بحياة تلك الأعضاء ، أو القول بإنكار دلالة حياتها على حياة صاحبها !
و ما ادّعوه من عدم الاعتداد بِعمل و حياة تلك الأعضاء في الدلالة على الحياة ، هو مِن باب تنزيل الموجود مَنزِلة المعدوم ، و هذا لا يَصْدُق إلاّ على الشيء اليسير الصغير غَير المُؤثِّر – كعدّةِ خلايا مثلاً – و لكنه لا يَصْدُق بِحالٍ على الأعضاء و أجهزة الجسم الرئيسية .
و حديثنا هنا - فيما يُسَمّونه بالموت الدماغي - عن حياة و عمل عدة أعضاءٍ و أجهزة في الجسم ، و ليس عن حياة عدة خلايا و أنسجة في الجسم أو خارِجِه [ ]؛ مِثال القرنيات و شرائح الجلد و الحيوانات المنوية ، المحفوظة في المَعامل و المُختبرات ؛ مِمّا يُلَبِسّون به على الناس.
و كذلك لا معنَى لإنكار دلالة حياة و عمل القلب - و تلك الأجهزة الرئيسية – على استمرار حياة صاحب الجسَد الموجودة فيه تلك الأعضاء الحيّة العاملة ؛ لأنّا نعلمُ يقيناً أنه مُحالٌ وجود ها بهذه الحال في أجساد الأموات . و المُمارِي عليه الدليل .
و يؤكد هذا البيان الذي أصدره د . ممدوح سلامة ، أستاذ المخ و الأعصاب ، و الرئيس الأسبق للجمعية المصرية لجرّاحي المخ و الأعصاب – في 30 / 3 / 2009 - و كان يحمل العنوان المُعَبّر : (( بهدوء و وضوح ...لا موت و القلب ينبض )) [ ]
مَوضِع الالتباس و الإلباس و فساد الاستدلال
و قد وقع التباسٌ شديدٌ عند بعض دُعاة الأخذ بمفهوم الموت الدماغي ؛ إذ غَلطوا و خَلطوا بين دلالة حياة العضو المنفصل عن الجسم و بين دلالة حياة مِثله الموجود بالجسم [ ]؛ مما أَوقَعهم في فساد الاستدلال .
مثال ذلك بحث " موت جذع المخ ، مراجعة و مناقشة " - المُقَدّم إلى ندوة " التعريف الطبي للموت " بالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – حيث يقول مقدِّمه : ( إن تعريف الموت بأنه « الزوال التام الدائم والأكيد لكل علامات الحياة من جميع أجزاء الجسم » لم يعد يستقيم مع الحقائق الثابتة حاليا، فلو تبرع إنسان سليم بأحدى كليتيه، وزرعت في مريض بالفشل الكلوي ، ثم حان أجل السليم ودفن في قبره، واستمرت كليته تؤدي وظيفتها في جسم المريض ، هل نمسك عن اعتبار المتبرع ميتاً لأن أحد أعضائه حي ؟ ويقال مثل ذلك عن الخلايا التي تؤخذ من إنسان ، ونستزرعها في أطباق في المختبر، يموت صاحبها ، وتستمر هي في الحياة منتجة جيلا بعد جيل، ويمكن الاستطراد في الأمثلة المشابهة ) . أهـ[ ] . و هو احتجاج في غير مَحِلّه أَوْصل إلى استنتاج غير صحيح .
إن مفهوم الموت الدماغي يقوم على اجتماع أَمريْن مُتناقضيْن : هما القول بتحقق الموت ، مع تحقق حياة الجسم - بحياة أغلب أعضائه و أجهزته الرئيسية ؛ بدلالة عدم تلفها و قيامها بوظائفها – و في سبيل رفع ذلك التناقض و إثبات صحة دعواهم تلك ، قالوا بعدم دلالة حياة الأعضاء على حياة صاحبها ، مع إغفال دلالة قيام أجهزة الجسم بوظائفها . و هو مع هذا الإغفال استدلالٌ في غَير مَوضِعه ، و سيأتي بيانه بعد .
1 - و يحتَجُّون لذلك بعدم التلازم بين حياة و عمل الأعضاء – كالقلب و الكبد ٍمثلاً – و بين حياة صاحبها ؛ بدليل حياتها و عملها في جسد المتلقي ٍالمزروعة فيه تلك الأعضاء ، مع موت صاحبها الأصلي ٍالمنزوعة منه ، فيما يُسمى بنقل و زراعة الأعضاء من الأموات .
2 - و يحتَجّون لذلك أيضاً بعدم التلازم بين موت أو تلف تلك الأعضاء و بين مَوت صاحبها ؛ بدليل حياة صاحب العضو التالف ، إذا استُبدِلَ به عضوٌ سليم مأخوذٌ من إنسان آخر أو مَثيلُه الاصطناعي ، في الوقت المناسب و بِقَدَر الله . و كُلّ ذلك واقعٌ و ٍمُشاهَدٌ و لا خِِلاف فيه .
ٍٍٍ* و يَخْلصون من ذلك إلى القول بعدم دلالة حياة و عمل الأعضاء على حياة صاحبها ، و هو ما لا نُنازِع فيه بخصوص صاحبها ٍالمنفصلة عنه ، و لكنّا نُنازِع بل نعارِض * في دلالته على صحة ما يُسَمّونه بالموت الدماغي• ؛ إذ لا حُجّة لهم فيه بخصوص صاحب الجسد الموجودة فيه تلك الأعضاء .
بيان دلالة حياة و عمل الأعضاء على حياة صاحب الجسد - الموجودة فيه - :
ٍٍٍٍٍ* ٍو هذا الذي ادّعوه و استنتجوه آنِفا ٍهو استدلالٌ في غَير مَوْضعه ؛ لأنّا نقول إنَّ المَوْضِع ذا الدلالة في هذا الشأن إنما هو ذلك الجسد الموجودة فيه تلك الأعضاء - وقت تشخيص و تحقيق وقوع الموت من عدمه - أي أنّ مَوْضِع العضوٍ المُستدَّل بحياته ، هو ذات الجسد الموجود فيه ذلك العضو الحيّ العامل – أصلياًكان أم منقولاً - لا الجسد الآخر المنفصل عنه العضو ؛ فإذا كان الجسد محتوياً على عضوٍ حيٍّ يعمل و يُؤَدِّي وظيفته ؛ فيكون دليلاً على حياة صاحب ذلك الجسد الموجود فيه هذا العضو ، و كذا الأعضاء من باب الأَوْلَى .
و هذا لا ينعكس ؛ فلا يكون تلف العضو و فشله في أداء وظيفته دليلاً على موت صاحب الجسد الموجود فيه ؛ لإصابة كثير من المَرْضَى الأحياء – من غير موتى الدماغ - بفشلٍ عضويٍّ ، كَبِديّ أو كلويّ أو قلبي ؛كما هو مُبَيّن آنفا ، في الفقرة رقم ( 2 ) .
و بعبارة أخرى ، فوجود العضو حيّاً عاملاً في جسدٍ ما هو دليلٌ على حياة صاحب ذلك الجسد الموجود فيه ؛ لأنه مُحالٌ - قطعاً - وجود ذلك العضو بهذا الحال في جسد الأموات . و المماري يلزمه الدليل .
و كذا وجود عدة أعضاء حيةً عاملةً في جهازٍ من أجهزة الجسم ، و مِن بابٍ أَولَى وجود عدة أجهزة عاملةٍ مؤدّيّة لوظائفها في جسدٍ ما هو دليلٌ يقينيٌّ على حياة صاحب ذلك الجسد الموجودة فيه ؛ بِطريق الأَولَى ؛ لأنّا نعلم يقيناً أنه مُحالٌ وجود تلك الأجهزة حيةً عاملةً في أجساد الأموات . و المماري عليه الدليل .
فليأتوا بعشر أمواتٍ أو بميّتٍ واحدٍ – مَوتةً حقيقية – يضُخّ قلبُه الدمَ في عروقه ، و يدور دمُه هذا في أوردته و شرايينه ، و تعمل أجهزة جسمه و تقوم بوظائفها لأوقاتٍ ملحوظة ، فضلاً عن أيام و أسابيع عديدة - كما في الموت الدماغيّ المزعوم – إن كانوا صادقين [ ].
و بذلك يسْتبين بِيقين دلالة حياة و عمل القلب و الأجهزة – كالجهاز الهضمي و البَولي و غيرهما – على حياة صاحب الجسم الموجودة فيه تلك الأعضاء و الأجهزة ؛ لاستحالةِ وجودها على تلك الحال من العمل و الحياة في أجساد الأموات . و هذا واقعٌ و مُشاهَد .
و بهذا يتَبَيّن بُطلان القَول بأن المَوت الدماغي هو مَوتٌ حقيقي ، مع حياة و عمل بقية الأعضاء و أجهزة الجسم ؛ لاستحالةِ وجودها بتلك الحال - من العمل و الحياة - في أجساد الأموات حقيقةً .
فالأحياء وحدهم هُمّ مَن يَتِصِفون بوجود تلك الحال ، و لا يُوصَف الشخصُ بالمَوتِ و الحياةِ معاً في حالٍ واحدٍ ؛ لأن في إثبات أحد الضِدّيْن وصفاً للشيء ، نَفياً لِلضدّ الآخر ، و لا يكون الشخصُ حياً ميّتاً معاً ؛ لاستحالة أن يُوجدا معاً في حالةٍ واحدة ؛ إذ اجتماع النقيضَيْن في حالٍ مُحال . و هذه مسألةٌ بَديهية مُسَلّمة .
و إنما أَطَلْنا في شَرح ذلك و أَفَضْنا ، و أَعَدْنا و فَصَّلّنا ؛ لِنزيد الأمر إظهاراً و إيضاحاً ، بعد ما كاد التلبيس ينطلي و يستولي على عقول كثيرٍ من العَوامّ و غيرهم ، و بعد أن أصبح الناس يُنكِرون ما كانوا يَعرفون ، و أصبح مفهوم الموت و الحياة و دلائلهما أمراً خَفِيّاً مختلَفاً فيه !
سبْقٌ و فضل
و لا يَسَعُني هنا إلاّ الاعتراف بالسَبْق للدكتور رؤوف محمود سلام – نائب رئيس الجمعية المصرية للأخلاقيات الطبية - في بيان الفرق بين دلالة حياة العضو المتصل بالجسم و بين دلالة غيره المنفصل عن الجسم ، و ذلك في مناقشات ندوة التعريف الطبي للموت ؛ حيث قال في أحد التعليقات على المناقشات : ( حدث كثير من الكلام عن الجزء المنفصل عن الجسد مثل الحيوانات المنوية والبويضة ، وأنها حية ، فهل هي دليل على حياة صاحبها ؟ وبالطبع الجزء المنفصل عن الجسد انفصلت علاقته بالجسد ، وأصبحت حياته أو مماته لا تدل على حياة أو موت الجسد التي أخذت منه ، ومثلها في ذلك العضو المنقول ؛ فحياة العضو المزروع مرتبطة بحياة الموهوب له ، وليست مرتبطة بحياة الواهب ) . و يقول في تعليق آخر : ( أكرر مرة ثانية حكاية العضو المفصول ؛ لأنها ذُكِرتْ مرة أخرى ، وشرفني الدكتور أحمد بالتعليق عليها في بحثي ، إنني عندما آخذ كُلْوة من واهب وأضعها في موهوب له ، فإنها تصبح مرتبطة بالجسم المتصلة به ، وتصبح دليلاً على حياته هو ، ولا تدل على حياة الواهب ; لأنها انفصلت عنه ) . أهـ
* و يُمكن تلخيص ما سبق بيانه في عبارتيْن اثنتيْن ، تُمَثِّلان قاعدتيْن حاكِمتيْن في مسألة الموت الدماغي و غيره :
الأولى : ( الأحياءُ وحْدهم ُهم مَن تَدُقّ قلوبهم التي في صدورهم ، و هُمّ وحْدهم مَن تعمل أعضاؤهم و أجهزتهم التي في أجسادهم ) .
[ مع مُراعاة أنَّ المقصود بالأعضاء – هاهنا - هي تلك ( الموجودة في الأجساد ) ، لا تلك المنفصلة عنها . و هو ما تقدم بيانه قريبا ] .
و الثانية : و هي نقيض الأُولَى : ( المَوتَى لا تَدُقّ قلوبُهم التي في صدورهم ، و لا تعمل أعضاؤهم و أجهزتهم التي في أجسادهم ) . و هذا أمرٌ مشهودٌ محسوس .
و هذه القاعدة لها سندها العلمي المعتبر ؛ إذ هي بمعنى عنوان البيان الذي أصدره الدكتور ممدوح سلامة – الرئيس الأسبق للجمعية المصرية لِجَرّاحي المخ و الأعصاب – و هو : (( بهدوء و وضوح ... لا مَوْت و القلب ينبض )) . و قد تقدم ذِكره
و البيان بتمامه منشور في موقع الجمعية المصرية للأخلاقيات الطبية . [ ]
الفرق بين حياة الجسد و مَوته ؛ بشهِادَة شاهِدٍ مِن أهلِها
و هناك ما سمَّاه د . فيصل شاهين - مدير المركز السعودي لزراعة الأعضاء - " حقيقة طبية " ، و هو أن (( الجسد الميت لا يختلف كيميائيا عن الجسد الحي على الإطلاق لا من الناحية الشكلية أو التشريحية أو حتى من خلال فحص الأنسجة (خزعة قبل الموت وخزعة بعد الموت) ، والخلاف بينهما فقط في تأدية الوظائف )) . أهـ [ ]
و إذا تقرّر هذا ، و تحقَّق تأدية عدة أجهزة لوظائفها بجسم من يُسمى بالميت دماغياً – كالجهاز الهضمي ، و الجهاز البولي ، و الجهاز القلبي الوعائي ( الجهاز الدوري ) ، و غيرها - فمقتضاه أنه جسدٌ حيٌّ ؛ فيكون صاحبه حياً . و هذا يهدم دعوى الموت الدماغي من أصلها ؛ لأن الموتى الحقيقيين أجسادهم ميِّتة ، إذ لا يقوم أيٌّ من أجهزة أجسادهم بفعل مثل ذلك .
و هذا بخلاف الحاصل فيما ادّعوه ، و به يتَبَيّن بُطلان أُكذوبة الموت الدماغي ، و أنّّ المريض بما يُسَمّونه ( موت المخ أو الدماغ ) هو إنسانٌ حَيٌّ ما دامت في جسده علامة من علامات الحياة المعتبرة ؛ كالقلب النابض و غيره من الأعضاء و الأجهزة الحيّة العاملة ، و هذه العلامات و نحوها لم تكن أبداً موضع خلاف بين الأطباء أو العلماء في يومٍ من الأيام ، إلى أن وقعتْ نازلة نقل و زرع الأعضاء الآدمية قبل عقود قليلة من الأعوام ؛ مما فتح باب البحث عن مصادر متجددة لتلك الأعضاء ، و كان هؤلاء المرضى مِن أَهَم تلك المصادر التي وقع عليها الاختيار لـ( حَصْد الأعضاء ) ، و جرَى البحث الحثيث عن مَخْرَج و مُسَوّغ للقول باستباحتها !
و كان اختلاق مُصطلح و مفهوم ( موت المخ ) - أو ( موت الدماغ ) – هو الحَلّ الأسهل للوصول إلى هذا الغَرَض ، و الحصول على أعضاء حَيوية – ضرورية للحياة – تُنتَزع انتزاعاً من أجسادِ أحياء ؛ بِدعوى اعتبارهم أموات - " مَوتَى المخ أو موتى الدماغ " – لأن أعضاء أجساد الأموات موتاً حقيقياً لا تصلح للزرع و العمل من جديد في أجساد المرضى الأحياء . و هذه حقيقة طبية سَلّم بها دعاة الإماتة الدماغية أنفسهم ؛ فعندما سُئل د . حمدي السيد – في حوار أجرته معه صحيفة الأهرام في 15 / 5 / 2007 م - : ( إذا كان لدينا إنسان تُوفِّيّ وفاة طبيعية ، فهل يمكن انتزاع أعضاء منه مثل القلب و الكبد ؟
أجاب : لا . هذا مستحيل أن يتم نقل كبد ميت أو قلب من ميت ) . أهـ [ ]
و هنا سُئِل : ( معني ذلك أنك تقر بأن موتي جذع المخ هم أحياء ، لأنه يتم انتزاع أعضائهم من كبد وقلب وغير ذلك وهي تنبض بالحياة؟
أجاب : هذا كلام غير صحيح. فعندما يموت جذع المخ فإن الانسان مات فعلا ولكن أعضاءه لم تمت بعد ، وهذا يحدث والانسان ميت.
-كيف يحدث هذا؟
قال : الأعضاء ليست هي الحياة لأن كل عضو له عمر محدد. فمثلا الكلي تموت بعد نصف ساعة من توقف القلب. والمخ يموت بعد ثلاث دقائق من توقف القلب, والقلب يموت بعد5 دقائق , والجلد يموت بعد24 ساعة من موت القلب. والعظام تموت بعد12 ساعة, وكذلك القرنية تموت بعد12 ساعة ثم صمام القلب يموت بعد24 ساعة. ولهذا أؤكد أن هناك فرقا بين حياة العضو وحياة الانسان. فعندما يموت المخ مات الانسان ولو بقيت اعضاؤه حية ) .أهـ
و إذا تقرّر هذا ، فلماذا لا يتم نقل و زرع الأعضاء من الأموات ، و ما وجه قوله المذكور آنفا ، باستحالة نقل الأعضاء من الأموات ؟
و أيّاً كان الجواب ، فالحقيقة العلمية الثابته أنّ أعضاء أجساد الأموات موتاً حقيقياً لا تصلح للزرع و العمل من جديد في أجساد المرضى الأحياء .
و على هذا ، فالأعضاء المزروعة ، المنزوعة من موتى المخ ، هي أعضاءٌ مأخوذة من أُناسٍ أحياءٍ يقيناً ؛ للإقرار باستحالة نقل الأعضاء من الأموات مَوتاً حقيقيا .
و هذا القَول كافٍ وَحْده في إبطال الزعم بأن موت المخ هو موتٌ حقيقي للإنسان المُصاب بذلك الدَّاء ، و بهذا بان بطلان القول بالموت الدماغي .
و هو ما قرره المجمع الفقهي الإسلامي – في دورته العاشرة ، سنة 1987 – ( بشأن موضوع تقرير حصول الوفاة و رفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان ) ، و نَصّه : " المريض الذي رُكبت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها ، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا ، و قررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء ، أن التعطل لا رجعة فيه ، و إن كان القلب و التنفس لا يزالان يعملان آليا ، بفعل الأجهزة المركبة . لكن لا يُحكَم بموته شرعاً ، إلاّ إذا توقف التنفس و القلب ، توقفا تاما بعد رفع هذه الأجهزة" . أهـ . و قد تقدم
و الله تعالى أعلم
كتبه
د . أبو بكر خليل
بقلم : د . أبو بكر خليل
بسم الله الرحمن الرحيم
يأتي القول بالموت الدماغي – و هو تنزيل الداء المسمى بموت المخ منزلة الموت المعتبر ، مع وجود العديد من علامات الحياة المعهودة – كحلقة من حلقات تغيير المفاهيم ، التي يجري الترويج لها باستمرار و إصرار يصل إلى حدّ الضغط و الإلحاح ؛ لاستباحة أجساد هؤلاء المرضى الأحياء ، و استلاب أعضائهم ؛ بدعوى نقلها و زرعها في أجسام مرضى غيرهم .
و يحسُن بنا قبل التعرض لبعض القرارات التي ألبَسَت ثوبَ المشروعية للإماتة بداء موت المخ ، أن نورِد واحداً من القرارات القاضية بحياة هؤلاء المرضَى ، و هو قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي – في دورته العاشرة ، سنة 1987 – ( بشأن موضوع تقرير حصول الوفاة و رفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان ) ، و نَصّه : " المريض الذي رُكبت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها ، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا ، و قررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء ، أن التعطل لا رجعة فيه ، و إن كان القلب و التنفس لا يزالان يعملان آليا ، بفعل الأجهزة المركبة . لكن لا يُحكَم بموته شرعاً ، إلاّ إذا توقف التنفس و القلب ، توقفا تاما بعد رفع هذه الأجهزة .
و صلى الله على سيدنا محمد ، و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا ، و الحمد لله رب العالمين " . أهـ[ ]
فهذا القرار يَنُصّ تصريحاً على أن المريض الذي يُطلق عليه " الميِّت دماغيا " - بموت كل الدماغ ، و هو من تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا لا رجعة فيه – لا يُحكَم بموته شرعاً .
و يلزم منه الحكم بحياته شرعا ، إلى أن يتوقف التنفس و القلب توقفا تاما ، بعد رفع أجهزة الإنعاش .
و هذا القرار الفقهي المجمَعي ينفي اعتبار الشرع للموت الدماغي ؛ بمعنى أن الشرع لا يعتبر الموت الدماغي موتاً حقيقيا ، فلا يترتب عليه أي حكم من أحكام الموت المقررة في الشرع .
و لا تُعَدّ القرارات الأخرى المخالفة لهذا القرار مِن قبيل الاختلاف الفقهي المعتبر ؛ لعدم استنادها إلى دليلٍ شرعي صحيح ، و قيامها على دعاوى غير صحيحة ، طباً و حِسّاً . و سيأتي بيانه .
و قد زَعم الذين ابتدعوا أو انخدعوا بمصطلح ( مَوت المُخّ أو موت الدماغ ) – الذي هو في حقيقته تَوقُف أو تعطُلّ في وظائفه[ ]– أنّ الأشخاص المُصابين بذلك الداء لن يبرَأوا منه أبدا ، و أنّ مَآلَهم إلى المَوْت القريب حَتماً ، و لِذا ينبغي – بِزَعمهم - التعجيل باقتطاع و انتزاع قلوبهم و أعضائهم السليمة الحيَّة - قبل أن تَتلف و تَبْلَى – لنقلها و زرعها في أجساد آخرين مَرضَى !
و في ذلك يقول قائلهم : ( نحن نعلم تماماً أن الإنسان بلا وظيفة للمخ ليس مفيدا أو مضراً لعدم وجود المركز المسيطر على الأجهزة ، فإذا فشلتْ وظيفةُ المخ بالقطع واليقين بعد ساعة أو بعد خمس دقائق أو بعد يوم أو بعد أسبوع فالنهاية حتمية ومعروفة ، وإذا أراد البعض أن يستفيد من هذا الوضع بأن يقول : لماذا لا نستفيد بعضو؟ .... إن هذا هو العطاء الذي يمكن أن تنقذ به الآخرين ). أهـ[ ]
و يقول آخر في بحثه المقدّم إلى ندوة " التعريف الطبي للموت " ، في التغيّرات التي تتبع موت جذع المخ : ( ولتوضيح هذا المعنى لدى القارىء نشبِّه جذع المخ بجذع الشجرة فإذا تلف جذع الشجرة تماما فإننا لا نتوقع أن تستمر الساق والأفرع والثمار في الحياة طويلا بعد ذلك ، ولكن أعضاء الجسم الأخرى يمكنها القيام بوظائفها لفترة من الزمن ويمكن نقلها للآخرين ، إلا أن فرص نجاح جراحة زراعة العضو تكون في أحسن حالاتها إذا نقل العضو فور موت جذع المخ مباشرة وقبل أن تدب فيه أية درجة من درجات التحلل بقدر الإمكان ، وذلك بالقيام بالتشخيص المبكر لموت جذع المخ ).[ ]
و ذكَر بيان ندوة " الحياة الإنسانية بدايتها و نهايتها " - التي عُقدت بالكويت سنة 1985 – نقلاً عن الأطباء المشاركين فيها قولهم : ( إن كان جذع المخ قد مات فلا أمل في إنقاذه وإنما يكون المريض قد انتهت حياته ، ولو ظلت قي أجهزة أخرى من الجسم بقية من حركة أو وظيفة هي بلا شك بعد موت جذع المخ صائرة إلى توقف وخمود تام ) . أهـ [ ]
هذا و قد بلغت مُدة بقاء عمل القلب في بعض هؤلاء المرضى ثمانية و ستين يوماً بعد تشخيص الإصابة بموت الدماغ [ ] ؛ كما قال أحد المؤيدين لاعتباره موتاً للإنسان المُصاب به . و لا يقول عاقل إن عمل القلب تلك المدّة إنما هو بقية حركة أو وظيفة ، حتى لو كان ذلك بمساعدة أجهزة الإنعاش ؛ لأنها لا يمكنها فعل مثل ذلك في أجساد الأموات موتاً حقيقيا . هذا فضلاً عن أنّ أجهزة الإنعاش لا صلة لها ببقية أجهزة الجسم العاملة.
و هذا الجَزْمُ الذي ادّعوه – و المذكور في أول هذا الفصل - زَعْمٌ باطل ؛ لأنٍَّ عِِلْم ذلك و تقديره عند الله وحدَه ، لا عند أحدٍ سِواه ، و لا يُجادل في هذه الحقيقة الأكيدة إلاّ جاحدٌ أو مُعانِد ؛ قال الله تعالى :{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا }.[آل عمران : 145].
و معنى " مؤجلا " إلى أجل. ومعنى " بإذن الله " بقضاء الله وقدره .
وأجل الموت : هو الوقت الذي في معلومه سبحانه ، أنّ روح الحيّ تفارق جسده ؛ قاله القرطبي [ ] . و عليه فالله وحده هو من يعلم و من يُحَدِّد لحظة الموت .
و تلك الحُجَّة التي احتَجّوا بها داحضة ؛ لأن تَوَقُّع دُنُوّ ٍالمَوت ليس سبباً - في الشرع - للتعجيل بإيقاعه بوسيلة من الوسائل ، أو لِغَرضٍ من الأغراض ، مثل استباحة الجسد و استلاب الأعضاء ، و إلاّ لَجَازَ فِعْل ذلك بجميع المُحْتضِرين مِن غَير مَرضَى موت الدماغ ، و هذا باطلٌ بِلا رَيْب ؛ لأنّ الله تعالى حرّم إعجال مَوت مَن قربتْ نفْسه مِن الزهوق ، و أنّ فاعل ذلك قاتلُ نفْسٍ ؛ ٍقال الإمام ابن حزم : لا يختلف اثنان من الأُمة كلها في أن من قَرُبَتْ نفْسُه من الزَّهوق بعلَّة أو بجراحة أو بجناية بعمدٍ أو خطأ فمات له ميتٌ فإنه يرثه ، وإن كان عبداً فأُعتق فإنه يرثه ورثته من الاحرار ، وأنه إن قدر على الكلام فأسلم وكان كافراً وهو يميز بعد فإنه مسلمٌ يرث أهله من المسلمين ، وأنه إن عاين وشخَص ولو يكن بينه وبين الموت إلا نفَسٌ واحد فمات من أوصى له بوصية فإنه قد استحق الوصية ويرثها عنه ورثته ؛ فصح أنه حيٌّ بعدُ بلاشك ؛ إذ لا يختلف اثنان من أهل الشريعة وغيرهم في أنه ليس إلا حيٌّ أو ميت ولا سبيل إلى قسم ثالث ، فإذ هو كذلك وكنا على يقينٍ من أن الله تعالى قد حرّم إعجال موته وغَمّه ومنعه النفَس ؛ فبيقينٍ وضرورة ندري أن قاتله قاتل نفْسٍ بلا شك ، فمن قتله في تلك الحال عمداً فهو قاتل نفْس عمدا ومن قتله خطأ فهو قاتل خطأ ، وعلى العامد القود أو الدِّية أو المفاداة ، وعلى المخطئ الكفارة والدية على عاقلته ، وكذلك في أعضائه القود في العمد . أهـ [ ]
و هذا الإعجال بالموت هو الحاصل في إماتة المرضَى بموت الدماغ ؛ بمنعهم النفَس بطريق نزع أجهزة الإنعاش – المساعِدة على التنفس – عنهم ، في حال رفض أهلهم التبرع بأعضائهم ، أو بإماتتهم قتلاً بانتزاع أعضاء أجسامهم الحيوية – الضرورية للحياة – في حال القبول بذلك التبرع . و قتْل النفْس العمْد متحققٌ في كِلا الحاليْن .
و لا يَصحّ التعلل بغرَض اقتطاع الأعضاء لعلاج الغير - في ذلك الإعجال بالموت – لأن ( لِحياة الإنسان حُرْمتها ، و لا يجوز إهدارها إلاّ في المواطن التي حددتها الشريعة الإسلامية ، و هذه خارج نطاق المهنة الطبية تماماً ) ؛ كما جاء في الباب السابع من " الدستور الإسلامي للمِهن الطبية " ، الذي أقَرّته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية . [ ]
الاستدلال بالسؤال المغلوط
و في سبيل الاحتجاج لدعوَى الموت الدماغي ، وضعوا سؤالاً مغلوطاً يقول : ( هل هناك حالة واحدة مات فيها جذع المخ ، ثم عادت لها الحياة ؟ ) ، و يجيبون بـ( لا ) ، و عليه يقرّرون صحة دعوى الموت الدماغي [ ] !
و في ذلك يقول بيان المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية حول " التعريف الطبي للموت " : ( وقد فُصِّل الأمر خلال الندوة تفصيلا كاملا، ودار نقاش طويل واف للموضوع على مدى ثلاثة أيام ، وتبين للمجتمعين أنه ما من حالة تأكد فيها تشخيص موت الدماغ وجذعه وعادت إليها الحياة ، وما من حالة عادت إلى الحياة بعدما توفرت فيها شروط تشخيص موت الدماغ وجذعه ، وأن كل الحالات التي استشهد بها مَنْ شكك في هذا المفهوم كانت إما حالات لم يتم الالتزام فيها بمعايير التشخيص التزاما صارما، وإما حالات نجمت عن خطأ في التشخيص أو الاستنتاج أو الاستدلال ). أهـ[ ]
و وجه الغلط في سؤالهم : ( هل هناك حالة واحدة مات فيها جذع المخ ، ثم عادت لها الحياة ؟ ) ، أنّ هؤلاء المرضى لم يفارقوا الحياة بعدُ و لم تفارقهم ؛ فلا معنى للسؤال عن عودتها مع إنكار وجودها أصلاً في حالهم هذا ؛ فهمّ لا يعترفون بحياة هؤلاء المرضى ، و ينكرون علاماتها الموجودة في أبدانهم .
و على تقدير الاعتراف بنوعٍ من الحياة لهؤلاء المرضى ، فلا حجة لهم في سؤالهم هذا ؛ إذ يمكن قول مثله في الاحتجاج للتعجيل بإماتة جميع من يعاني الاحتضار ، و هذا باطلٌ بلا ريب .
و ليس ذلك السؤال هو محلّ الجدال فيمن يُسمّونهم بموتى المخ ، و لكن الأصل في السؤال هو : هل هؤلاء المرضَى مَوتَى حقيقةً في هذا الوقت و في تلك الحال ، مع وجود كثير من مظاهر الحياة فيهم ، مثل أعضاء الجسم و أجهزته الحيّة القائمة بوظائفها ؟!
هذا هو السؤال ، بصرف النظر عن وفاتهم بعد ذلك أَم بقائهم أحياء ، شأن أيّ إنسان به مرَض من الأمراض .
و قد تَجاسَر بعضهم و ادّعَى أن ما يُسَمّى بـ( موت المخّ أو موت الدماغ ) هو مَوْتٌٌ حقيقيّ يقينيّ للإنسان ؛ بزعمهم ، حتى قال قائلهم في بحثه المقدّم لندوة " التعريف الطبي للموت " : ( إنني أعتقد أن من ينكر الآن وجود تشخيص «موت المخ» كحالة إكلينيكية ومعملية محددة المعالم ، وأن هذا التشخيص يعني نهاية رحلة الإنسان في الحياة الدنيا، لا يختلف كثيراً عمن ينكر أن الأرض كروية أو أنها تدور حول الشمس ) . [ ]
و في حوارٍ مع صحيفة الأهرام - بتاريخ 14 / 5 / 2007 – سُئِل د . حمدي السيد : هل مرضي مايسمي بموتي جذع المخ أحياء أم أموات ؟
فأجاب : هم موتي بالفعل ، وليسوا مرضَى غيبوبة عميقة ، فمرضى الغيبوبة العميقة هم أحياء , أما من أصيبوا بنزيف كامل في المخ أو أصيبوا بموت جذع المخ في الحوادث فهم أموات .أهـ [ ]
و لا عِبْرة – بزعمهم أيضا - بوجود كثير مِن مظاهر و شواهد الحياة المُتعارَف عليها ، في أجساد هؤلاء المرضى ، مِثل القلوب الحَيّة النابضة ، و أجهزة الجسم الرئيسية العاملة بكفاءة ؛ بِدَعوى عدم دلالتها على حياة أصحابها ، ما دام الدِّماغ أو المُخّ قد تَوقّف عن العمل و تعَطّلٍ .
و لا ننكِِر أهمية المُخّ في حياة الإنسان ؛ فهي مما لا يحتاج إلى بيان ، و إنما نُنكِر دلالة دائه هذا على موت المريض به ، مع حياة و عمل قلبه و أعضائه و أجهزة جسمه !
نَقْض مسالك في رفع التناقض
و قد كان مِن مقتضَى القول بالموت الدماغي وجود ما يُسَمى بـ ( الجثة ذات القلب النابض ) ، و لرفع ذلك التناقض القاطع الظاهر عمدوا إلى القول بعدم الاعتداد بحياة تلك الأعضاء ، أو القول بإنكار دلالة حياتها على حياة صاحبها !
و ما ادّعوه من عدم الاعتداد بِعمل و حياة تلك الأعضاء في الدلالة على الحياة ، هو مِن باب تنزيل الموجود مَنزِلة المعدوم ، و هذا لا يَصْدُق إلاّ على الشيء اليسير الصغير غَير المُؤثِّر – كعدّةِ خلايا مثلاً – و لكنه لا يَصْدُق بِحالٍ على الأعضاء و أجهزة الجسم الرئيسية .
و حديثنا هنا - فيما يُسَمّونه بالموت الدماغي - عن حياة و عمل عدة أعضاءٍ و أجهزة في الجسم ، و ليس عن حياة عدة خلايا و أنسجة في الجسم أو خارِجِه [ ]؛ مِثال القرنيات و شرائح الجلد و الحيوانات المنوية ، المحفوظة في المَعامل و المُختبرات ؛ مِمّا يُلَبِسّون به على الناس.
و كذلك لا معنَى لإنكار دلالة حياة و عمل القلب - و تلك الأجهزة الرئيسية – على استمرار حياة صاحب الجسَد الموجودة فيه تلك الأعضاء الحيّة العاملة ؛ لأنّا نعلمُ يقيناً أنه مُحالٌ وجود ها بهذه الحال في أجساد الأموات . و المُمارِي عليه الدليل .
و يؤكد هذا البيان الذي أصدره د . ممدوح سلامة ، أستاذ المخ و الأعصاب ، و الرئيس الأسبق للجمعية المصرية لجرّاحي المخ و الأعصاب – في 30 / 3 / 2009 - و كان يحمل العنوان المُعَبّر : (( بهدوء و وضوح ...لا موت و القلب ينبض )) [ ]
مَوضِع الالتباس و الإلباس و فساد الاستدلال
و قد وقع التباسٌ شديدٌ عند بعض دُعاة الأخذ بمفهوم الموت الدماغي ؛ إذ غَلطوا و خَلطوا بين دلالة حياة العضو المنفصل عن الجسم و بين دلالة حياة مِثله الموجود بالجسم [ ]؛ مما أَوقَعهم في فساد الاستدلال .
مثال ذلك بحث " موت جذع المخ ، مراجعة و مناقشة " - المُقَدّم إلى ندوة " التعريف الطبي للموت " بالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية – حيث يقول مقدِّمه : ( إن تعريف الموت بأنه « الزوال التام الدائم والأكيد لكل علامات الحياة من جميع أجزاء الجسم » لم يعد يستقيم مع الحقائق الثابتة حاليا، فلو تبرع إنسان سليم بأحدى كليتيه، وزرعت في مريض بالفشل الكلوي ، ثم حان أجل السليم ودفن في قبره، واستمرت كليته تؤدي وظيفتها في جسم المريض ، هل نمسك عن اعتبار المتبرع ميتاً لأن أحد أعضائه حي ؟ ويقال مثل ذلك عن الخلايا التي تؤخذ من إنسان ، ونستزرعها في أطباق في المختبر، يموت صاحبها ، وتستمر هي في الحياة منتجة جيلا بعد جيل، ويمكن الاستطراد في الأمثلة المشابهة ) . أهـ[ ] . و هو احتجاج في غير مَحِلّه أَوْصل إلى استنتاج غير صحيح .
إن مفهوم الموت الدماغي يقوم على اجتماع أَمريْن مُتناقضيْن : هما القول بتحقق الموت ، مع تحقق حياة الجسم - بحياة أغلب أعضائه و أجهزته الرئيسية ؛ بدلالة عدم تلفها و قيامها بوظائفها – و في سبيل رفع ذلك التناقض و إثبات صحة دعواهم تلك ، قالوا بعدم دلالة حياة الأعضاء على حياة صاحبها ، مع إغفال دلالة قيام أجهزة الجسم بوظائفها . و هو مع هذا الإغفال استدلالٌ في غَير مَوضِعه ، و سيأتي بيانه بعد .
1 - و يحتَجُّون لذلك بعدم التلازم بين حياة و عمل الأعضاء – كالقلب و الكبد ٍمثلاً – و بين حياة صاحبها ؛ بدليل حياتها و عملها في جسد المتلقي ٍالمزروعة فيه تلك الأعضاء ، مع موت صاحبها الأصلي ٍالمنزوعة منه ، فيما يُسمى بنقل و زراعة الأعضاء من الأموات .
2 - و يحتَجّون لذلك أيضاً بعدم التلازم بين موت أو تلف تلك الأعضاء و بين مَوت صاحبها ؛ بدليل حياة صاحب العضو التالف ، إذا استُبدِلَ به عضوٌ سليم مأخوذٌ من إنسان آخر أو مَثيلُه الاصطناعي ، في الوقت المناسب و بِقَدَر الله . و كُلّ ذلك واقعٌ و ٍمُشاهَدٌ و لا خِِلاف فيه .
ٍٍٍ* و يَخْلصون من ذلك إلى القول بعدم دلالة حياة و عمل الأعضاء على حياة صاحبها ، و هو ما لا نُنازِع فيه بخصوص صاحبها ٍالمنفصلة عنه ، و لكنّا نُنازِع بل نعارِض * في دلالته على صحة ما يُسَمّونه بالموت الدماغي• ؛ إذ لا حُجّة لهم فيه بخصوص صاحب الجسد الموجودة فيه تلك الأعضاء .
بيان دلالة حياة و عمل الأعضاء على حياة صاحب الجسد - الموجودة فيه - :
ٍٍٍٍٍ* ٍو هذا الذي ادّعوه و استنتجوه آنِفا ٍهو استدلالٌ في غَير مَوْضعه ؛ لأنّا نقول إنَّ المَوْضِع ذا الدلالة في هذا الشأن إنما هو ذلك الجسد الموجودة فيه تلك الأعضاء - وقت تشخيص و تحقيق وقوع الموت من عدمه - أي أنّ مَوْضِع العضوٍ المُستدَّل بحياته ، هو ذات الجسد الموجود فيه ذلك العضو الحيّ العامل – أصلياًكان أم منقولاً - لا الجسد الآخر المنفصل عنه العضو ؛ فإذا كان الجسد محتوياً على عضوٍ حيٍّ يعمل و يُؤَدِّي وظيفته ؛ فيكون دليلاً على حياة صاحب ذلك الجسد الموجود فيه هذا العضو ، و كذا الأعضاء من باب الأَوْلَى .
و هذا لا ينعكس ؛ فلا يكون تلف العضو و فشله في أداء وظيفته دليلاً على موت صاحب الجسد الموجود فيه ؛ لإصابة كثير من المَرْضَى الأحياء – من غير موتى الدماغ - بفشلٍ عضويٍّ ، كَبِديّ أو كلويّ أو قلبي ؛كما هو مُبَيّن آنفا ، في الفقرة رقم ( 2 ) .
و بعبارة أخرى ، فوجود العضو حيّاً عاملاً في جسدٍ ما هو دليلٌ على حياة صاحب ذلك الجسد الموجود فيه ؛ لأنه مُحالٌ - قطعاً - وجود ذلك العضو بهذا الحال في جسد الأموات . و المماري يلزمه الدليل .
و كذا وجود عدة أعضاء حيةً عاملةً في جهازٍ من أجهزة الجسم ، و مِن بابٍ أَولَى وجود عدة أجهزة عاملةٍ مؤدّيّة لوظائفها في جسدٍ ما هو دليلٌ يقينيٌّ على حياة صاحب ذلك الجسد الموجودة فيه ؛ بِطريق الأَولَى ؛ لأنّا نعلم يقيناً أنه مُحالٌ وجود تلك الأجهزة حيةً عاملةً في أجساد الأموات . و المماري عليه الدليل .
فليأتوا بعشر أمواتٍ أو بميّتٍ واحدٍ – مَوتةً حقيقية – يضُخّ قلبُه الدمَ في عروقه ، و يدور دمُه هذا في أوردته و شرايينه ، و تعمل أجهزة جسمه و تقوم بوظائفها لأوقاتٍ ملحوظة ، فضلاً عن أيام و أسابيع عديدة - كما في الموت الدماغيّ المزعوم – إن كانوا صادقين [ ].
و بذلك يسْتبين بِيقين دلالة حياة و عمل القلب و الأجهزة – كالجهاز الهضمي و البَولي و غيرهما – على حياة صاحب الجسم الموجودة فيه تلك الأعضاء و الأجهزة ؛ لاستحالةِ وجودها على تلك الحال من العمل و الحياة في أجساد الأموات . و هذا واقعٌ و مُشاهَد .
و بهذا يتَبَيّن بُطلان القَول بأن المَوت الدماغي هو مَوتٌ حقيقي ، مع حياة و عمل بقية الأعضاء و أجهزة الجسم ؛ لاستحالةِ وجودها بتلك الحال - من العمل و الحياة - في أجساد الأموات حقيقةً .
فالأحياء وحدهم هُمّ مَن يَتِصِفون بوجود تلك الحال ، و لا يُوصَف الشخصُ بالمَوتِ و الحياةِ معاً في حالٍ واحدٍ ؛ لأن في إثبات أحد الضِدّيْن وصفاً للشيء ، نَفياً لِلضدّ الآخر ، و لا يكون الشخصُ حياً ميّتاً معاً ؛ لاستحالة أن يُوجدا معاً في حالةٍ واحدة ؛ إذ اجتماع النقيضَيْن في حالٍ مُحال . و هذه مسألةٌ بَديهية مُسَلّمة .
و إنما أَطَلْنا في شَرح ذلك و أَفَضْنا ، و أَعَدْنا و فَصَّلّنا ؛ لِنزيد الأمر إظهاراً و إيضاحاً ، بعد ما كاد التلبيس ينطلي و يستولي على عقول كثيرٍ من العَوامّ و غيرهم ، و بعد أن أصبح الناس يُنكِرون ما كانوا يَعرفون ، و أصبح مفهوم الموت و الحياة و دلائلهما أمراً خَفِيّاً مختلَفاً فيه !
سبْقٌ و فضل
و لا يَسَعُني هنا إلاّ الاعتراف بالسَبْق للدكتور رؤوف محمود سلام – نائب رئيس الجمعية المصرية للأخلاقيات الطبية - في بيان الفرق بين دلالة حياة العضو المتصل بالجسم و بين دلالة غيره المنفصل عن الجسم ، و ذلك في مناقشات ندوة التعريف الطبي للموت ؛ حيث قال في أحد التعليقات على المناقشات : ( حدث كثير من الكلام عن الجزء المنفصل عن الجسد مثل الحيوانات المنوية والبويضة ، وأنها حية ، فهل هي دليل على حياة صاحبها ؟ وبالطبع الجزء المنفصل عن الجسد انفصلت علاقته بالجسد ، وأصبحت حياته أو مماته لا تدل على حياة أو موت الجسد التي أخذت منه ، ومثلها في ذلك العضو المنقول ؛ فحياة العضو المزروع مرتبطة بحياة الموهوب له ، وليست مرتبطة بحياة الواهب ) . و يقول في تعليق آخر : ( أكرر مرة ثانية حكاية العضو المفصول ؛ لأنها ذُكِرتْ مرة أخرى ، وشرفني الدكتور أحمد بالتعليق عليها في بحثي ، إنني عندما آخذ كُلْوة من واهب وأضعها في موهوب له ، فإنها تصبح مرتبطة بالجسم المتصلة به ، وتصبح دليلاً على حياته هو ، ولا تدل على حياة الواهب ; لأنها انفصلت عنه ) . أهـ
* و يُمكن تلخيص ما سبق بيانه في عبارتيْن اثنتيْن ، تُمَثِّلان قاعدتيْن حاكِمتيْن في مسألة الموت الدماغي و غيره :
الأولى : ( الأحياءُ وحْدهم ُهم مَن تَدُقّ قلوبهم التي في صدورهم ، و هُمّ وحْدهم مَن تعمل أعضاؤهم و أجهزتهم التي في أجسادهم ) .
[ مع مُراعاة أنَّ المقصود بالأعضاء – هاهنا - هي تلك ( الموجودة في الأجساد ) ، لا تلك المنفصلة عنها . و هو ما تقدم بيانه قريبا ] .
و الثانية : و هي نقيض الأُولَى : ( المَوتَى لا تَدُقّ قلوبُهم التي في صدورهم ، و لا تعمل أعضاؤهم و أجهزتهم التي في أجسادهم ) . و هذا أمرٌ مشهودٌ محسوس .
و هذه القاعدة لها سندها العلمي المعتبر ؛ إذ هي بمعنى عنوان البيان الذي أصدره الدكتور ممدوح سلامة – الرئيس الأسبق للجمعية المصرية لِجَرّاحي المخ و الأعصاب – و هو : (( بهدوء و وضوح ... لا مَوْت و القلب ينبض )) . و قد تقدم ذِكره
و البيان بتمامه منشور في موقع الجمعية المصرية للأخلاقيات الطبية . [ ]
الفرق بين حياة الجسد و مَوته ؛ بشهِادَة شاهِدٍ مِن أهلِها
و هناك ما سمَّاه د . فيصل شاهين - مدير المركز السعودي لزراعة الأعضاء - " حقيقة طبية " ، و هو أن (( الجسد الميت لا يختلف كيميائيا عن الجسد الحي على الإطلاق لا من الناحية الشكلية أو التشريحية أو حتى من خلال فحص الأنسجة (خزعة قبل الموت وخزعة بعد الموت) ، والخلاف بينهما فقط في تأدية الوظائف )) . أهـ [ ]
و إذا تقرّر هذا ، و تحقَّق تأدية عدة أجهزة لوظائفها بجسم من يُسمى بالميت دماغياً – كالجهاز الهضمي ، و الجهاز البولي ، و الجهاز القلبي الوعائي ( الجهاز الدوري ) ، و غيرها - فمقتضاه أنه جسدٌ حيٌّ ؛ فيكون صاحبه حياً . و هذا يهدم دعوى الموت الدماغي من أصلها ؛ لأن الموتى الحقيقيين أجسادهم ميِّتة ، إذ لا يقوم أيٌّ من أجهزة أجسادهم بفعل مثل ذلك .
و هذا بخلاف الحاصل فيما ادّعوه ، و به يتَبَيّن بُطلان أُكذوبة الموت الدماغي ، و أنّّ المريض بما يُسَمّونه ( موت المخ أو الدماغ ) هو إنسانٌ حَيٌّ ما دامت في جسده علامة من علامات الحياة المعتبرة ؛ كالقلب النابض و غيره من الأعضاء و الأجهزة الحيّة العاملة ، و هذه العلامات و نحوها لم تكن أبداً موضع خلاف بين الأطباء أو العلماء في يومٍ من الأيام ، إلى أن وقعتْ نازلة نقل و زرع الأعضاء الآدمية قبل عقود قليلة من الأعوام ؛ مما فتح باب البحث عن مصادر متجددة لتلك الأعضاء ، و كان هؤلاء المرضى مِن أَهَم تلك المصادر التي وقع عليها الاختيار لـ( حَصْد الأعضاء ) ، و جرَى البحث الحثيث عن مَخْرَج و مُسَوّغ للقول باستباحتها !
و كان اختلاق مُصطلح و مفهوم ( موت المخ ) - أو ( موت الدماغ ) – هو الحَلّ الأسهل للوصول إلى هذا الغَرَض ، و الحصول على أعضاء حَيوية – ضرورية للحياة – تُنتَزع انتزاعاً من أجسادِ أحياء ؛ بِدعوى اعتبارهم أموات - " مَوتَى المخ أو موتى الدماغ " – لأن أعضاء أجساد الأموات موتاً حقيقياً لا تصلح للزرع و العمل من جديد في أجساد المرضى الأحياء . و هذه حقيقة طبية سَلّم بها دعاة الإماتة الدماغية أنفسهم ؛ فعندما سُئل د . حمدي السيد – في حوار أجرته معه صحيفة الأهرام في 15 / 5 / 2007 م - : ( إذا كان لدينا إنسان تُوفِّيّ وفاة طبيعية ، فهل يمكن انتزاع أعضاء منه مثل القلب و الكبد ؟
أجاب : لا . هذا مستحيل أن يتم نقل كبد ميت أو قلب من ميت ) . أهـ [ ]
و هنا سُئِل : ( معني ذلك أنك تقر بأن موتي جذع المخ هم أحياء ، لأنه يتم انتزاع أعضائهم من كبد وقلب وغير ذلك وهي تنبض بالحياة؟
أجاب : هذا كلام غير صحيح. فعندما يموت جذع المخ فإن الانسان مات فعلا ولكن أعضاءه لم تمت بعد ، وهذا يحدث والانسان ميت.
-كيف يحدث هذا؟
قال : الأعضاء ليست هي الحياة لأن كل عضو له عمر محدد. فمثلا الكلي تموت بعد نصف ساعة من توقف القلب. والمخ يموت بعد ثلاث دقائق من توقف القلب, والقلب يموت بعد5 دقائق , والجلد يموت بعد24 ساعة من موت القلب. والعظام تموت بعد12 ساعة, وكذلك القرنية تموت بعد12 ساعة ثم صمام القلب يموت بعد24 ساعة. ولهذا أؤكد أن هناك فرقا بين حياة العضو وحياة الانسان. فعندما يموت المخ مات الانسان ولو بقيت اعضاؤه حية ) .أهـ
و إذا تقرّر هذا ، فلماذا لا يتم نقل و زرع الأعضاء من الأموات ، و ما وجه قوله المذكور آنفا ، باستحالة نقل الأعضاء من الأموات ؟
و أيّاً كان الجواب ، فالحقيقة العلمية الثابته أنّ أعضاء أجساد الأموات موتاً حقيقياً لا تصلح للزرع و العمل من جديد في أجساد المرضى الأحياء .
و على هذا ، فالأعضاء المزروعة ، المنزوعة من موتى المخ ، هي أعضاءٌ مأخوذة من أُناسٍ أحياءٍ يقيناً ؛ للإقرار باستحالة نقل الأعضاء من الأموات مَوتاً حقيقيا .
و هذا القَول كافٍ وَحْده في إبطال الزعم بأن موت المخ هو موتٌ حقيقي للإنسان المُصاب بذلك الدَّاء ، و بهذا بان بطلان القول بالموت الدماغي .
و هو ما قرره المجمع الفقهي الإسلامي – في دورته العاشرة ، سنة 1987 – ( بشأن موضوع تقرير حصول الوفاة و رفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان ) ، و نَصّه : " المريض الذي رُكبت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها ، إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا ، و قررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء ، أن التعطل لا رجعة فيه ، و إن كان القلب و التنفس لا يزالان يعملان آليا ، بفعل الأجهزة المركبة . لكن لا يُحكَم بموته شرعاً ، إلاّ إذا توقف التنفس و القلب ، توقفا تاما بعد رفع هذه الأجهزة" . أهـ . و قد تقدم
و الله تعالى أعلم
كتبه
د . أبو بكر خليل
النووي- عدد المساهمات : 211
رايك في الموضوع يهمنا : 0
تاريخ التسجيل : 26/01/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت نوفمبر 23, 2024 12:57 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» الاخ من الرضاع
الجمعة نوفمبر 22, 2024 1:55 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» كيف وصل القرآن الكريم إلينا ؟
الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 3:07 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» شرح كتاب منهاج الطالبين للإمام النووي رحمه الله تعالى ، كتاب التيمم
الأحد نوفمبر 17, 2024 9:55 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» لماذا يطلق على إيران بالصفوية
الإثنين أكتوبر 28, 2024 1:56 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» شرح كتاب منهاج الطالبين للإمام النووي رحمه الله تعالى ، كتاب التيمم2
الخميس أكتوبر 24, 2024 3:07 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» العصا تنقلب الى مصباح منير
الخميس أكتوبر 24, 2024 12:51 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» أبو نواس ، يغفر الله تعالى الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر
الأربعاء أكتوبر 23, 2024 1:45 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» قصة بشار بن برد مع الحمار
الثلاثاء أكتوبر 22, 2024 1:56 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» الوصية حرام بهذه الطريقة
السبت أكتوبر 19, 2024 10:03 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» القرآن يتحدى الذكاء الاصطناعي
الأربعاء أكتوبر 16, 2024 2:30 am من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» شرح كتاب منهاج الطالبين للإمام النووي رحمه الله تعالى ، كتاب التيمم
الإثنين أكتوبر 14, 2024 1:10 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» حتى الكافر انتفع بميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الإثنين سبتمبر 09, 2024 12:57 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» تفسير قول الله تعالى ( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ )
الثلاثاء أغسطس 13, 2024 12:24 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان
» الايام الماضية والسابقة أين ذهبت
الإثنين يوليو 29, 2024 10:28 pm من طرف ابا محمد اسحاق حمدان